كريستيان مانجو.. تحميل السينما بما لا تحتمل

 

«كان» ـ هدى ابراهيم

لا يعتبر كريستيان منجو من المخرجين المكثرين، ففيلمه الجديد «بكالوريا» شريطه الخامس، وقد ذاع صيته كسينمائي مميز منذ ظهور عمله الاول «الغرب» (2002) الذي قدم في تظاهرة «اسبوعي المخرجين» في مهرجان كان السينمائي تلاه فيلمه الاشهر «اربعة اشهر وثلاثة اسابيع ويومان» الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2007،  تبعها حصول الفيلم على سلسلة قيمة من الجوائز عبر العالم.

وعاد مانجو الى مهرجان كان مع شريط «فيما وراء التلال» لتنتزع بطلته جائزة افضل اداء عام 2012.

في تجربته الجديدة الواقعية دائما، يصور مانجو الحياة المبنية على سلسلة من التنازلات لأب خمسيني، طبيب معروف، ربى ابنته على مبادئ تنازل عن بعضها هو نفسه، حين طالت ورطة مؤذية، ابنته التي كان يحاول ان يؤمن لها مستقبلا افضل من مستقبله.

كل شيء كان معدا لان تذهب الابنة الذكية والمتقدمة في الدراسة للالتحاق بجامعة في بريطانيا، لم يبق سوى امر شكلي لاتمام ذلك، الحصول على البكالوريا. كيف لا وهي مجتهدة تحصل على ارفع العلامات طوال العام!

غير ان محاولة الاعتداء عليها عشية الامتحانات تغير من هذا الواقع وتدفع الأب دفعا نحو تلك التنازلات التي رفضها طوال عمره، بينما تبدو كل مخططاته الجاهزة مهددة بالنسف جراء حادث خارج عن ارادته.

في محاولته ان يسلك مسارا مختلفا عن المبادئ التي اعتمدها طوال حياته، تفاديا للخسارة المحتمة التي اصيبت بها ابنته، يخسر الاب على كل الجبهات وينهار العالم الذي كان يعتقد انه صلب من حوله. تنازله يفقده الكثير من الاحترام الذي كانت تكنه له ابنته وصورته الماضية تصبح عندها مهتزة هشة.

الأب المثالي يعود ليقف اعزلا امام محيطه المباشر والاوسع. فما كان مقبولا منه من زوجته وعشيقته قبل السقوط، لا يعود مقبولا بعده.

من خلال قصة الطبيب وابنته، يصور المخرج كيف ان الانسان داخل المجتمع الروماني الحديث يصنع لنفسه الشرنقة التي ستنقفل في النهاية عليه، ينسجها خيطا خيطا مدفوعا بوعيه القلق ومحاولته تغيير الاشياء. لكن الواقع هنا يبدو مثل بكرة الفيلم، متى انطلقت تصعب اعادتها.

والمخرج عبر شريطه، يمتحن وعي المواطن الروماني وكمية الفساد المتفشية في قلب الطبقة المتوسطة التي تمارس نفوذها الكامل للوصول الى اغراضها في مختلف القطاعات، ولتصبح هذه التقنية الاجتماعية، بديهة تسير امور البلاد، ومن دونها يتغير الكثير من الاشياء في حياة الفرد، بل ان المجتمع الذي يولدها يمكن ان ينهار.

في «بكالوريا» كما في افلامه السابقة يتابع مانجو حبك سينماه الواقعية الاجتماعية، وهو ينتقل هذه المرة الى جيل الآباء، في الطبقة المتوسطة، ممن غادروا البلاد ايام تشاوشيسكو وعادوا اليها بعد رحيله. ويكشف الفيلم كيف ان الحياة مبنية في العموم على مجموعة من الاكاذيب والحيل والتواطؤات والاخفاءات والتلاعبات، بدونها يبدو الفرد خاسرا وعاريا وهو خاسر في كل الاحوال.

نعم، لأن الكذب يجر الكذب والكذبة تدفع لاختراع اكاذيب اخرى للتغطية على الكذبة الاصلية، ليس من قبل الطبيب وحده بل من قبل اصدقائه الذين يتفهمون وضعه ويحاولون مساعدته على تجاوز المشكلة.

هذه الاكاذيب أو التسترات على المستوى العام، تواكبها الاكاذيب على مستوى الحياة الشخصية وحيث كلما طالت الكذبة كلما صعب التخلص منها، لكن المخرج، يرمي باكثر من خيط ليبني السيناريو. بعض هذه الخيوط يبقى معلقا ويضفي على القصة التي تحاول تجسيد الوعي القلق، مزيدا من البرودة والتعقيد والالتباس ايضا.

والفيلم حين يتكلم عن الفساد الراهن في رومانيا والفشل في بناء دولة نظيفة في مرحلة ما بعد تشاوشيسكو، يثير قضية الفساد بشكل عام في كل بقعة من الارض حيث تتشابه الآليات كما تتشابه النتيجة، وحيث المجتمع يعتبر أكبر متبن وحاضن لهذه الأساليب.

الاب هنا يحاول ان يقرر عن ابنته التي تدعوه اكثر من مرة ليتركها تأخذ القرار بنفسها لكنه يصر على الاعتقاد بانه أفهم منها فيما يتطلبه مستقبلها واقدر منها على تصور هذا المستقبل بشكل افضل مما تتصوره هي. ذلك نابع ايضا من خيباته المهنية وفي الحياة بعد تجاوزه الخمسين، وحيث لم يعد بامكانه تغيير الشيء الكثير فيما يخصه.

فنيا يصور كريستيان مانجو شريطه بانسجام مع اعماله السابقة بالاعتماد كثيرا على طريقة التصوير المسرحي التي تقضي بتصوير المشهد باكمله دفعة واحدة، ليأتي الفيلم بمضمونه وشكله ثقيل الوقع على المشاهد، الذي قد يلتبس عليه الامر احيانا ضمن محاولات التغطية المتكررة التي يعمد اليها الطبيب.

اما الممثل الثقيل الحركة لكن الجيد الاداء فيعتبر مرشحا محتملا لجائزة افضل ممثل، عن هذا الفيلم الكثيف الى درجة اكبر من طاقة السينما على الاحتمال واكبر من ادواتها.

«بكالوريا» هو الفيلم الروماني الثاني في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي التاسع والخمسين، بعد شريط «سيرانيفادا» للمخرج كريستي بيو، والعملين رغم اختلافهما، يقدمان صورة سوداء عن الواقع في رومانيا، ويجسدان حضورا مشرفا ومتجددا لهذه السينما في مهرجان كان.

Exit mobile version