جوائزسينمانامراجعات فيلميةمهرجان القاهرةمهرجاناتنقد

ميلبورن. الاستغلال الأمثل للزمان والمكان

“سينماتوغراف” تسلط الضوء على جماليات الفيلم الإيراني
الحائز على الهرم الذهبي لـ “القاهرة السينمائي”
“ميلبورن”.. البعد النفسي للأبطال والاستغلال الأمثل للزمان والمكان
“سينماتوغراف” ـ عمار محمود
 
حصل فيلم “ميلبورن ـ Melbourne” الإيراني في حفل توزيع جوائز مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والثلاثين على جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الإيراني نيما جاويدي (Nima Javidi) والذي أخرج قبله العديد من الأفلام القصيرة والكثير من الإعلانات التليفزيونية.
 
يمثل هذا الفيلم تحدي إخراجي كبير بالنسبة لجاويدي، أولا للمكان الضيق، لأن أحداثه تدور داخل شقة طيلة وقت الفيلم، والذي بالضرورة لابد من تحقيق الاستغلال الأمثل له. وثانيا للوقت الضيق، حيث أن أحداث الفيلم أيضا لا تتجاوز بضع ساعات، هي المدة الفاصلة بين تجهيز حقائب السفر وتسليم عهدة الشقة لمالكها والذهاب إلى المطار.
 
تبدأ الأحداث في أثناء تجهيز أمير (بيمان معادي Payman Naadi) وزوجته سارة (نجار جواهريان Nigar Javaherian) لحقائب السفر، وكانت مربية طفلة جارهما قد أودعت الطفلة عند أمير وسارة ريثما تذهب لإحضار بعض الأشياء، وفي تلك الأثناء بعدما اكتملت تجهيزات الحقائب، ومحاولتهم بعدم ازعاج الطفلة النائمة كي لا تشغلهم ببكائها.
 
ينكسر باب الغرفة التي تنام بها الطفلة، فيفاجأ أمير بعدم استيقاظها، فيحاول إيقاظها ولكنها لا تستجيب، فيتصل بالإسعاف وينادي زوجته لتتفحص الطفلة، لتخبره بأن الطفلة قد ماتت، ومن تلك اللحظة، يخرج بطلي الفيلم عن شعورهما، محاولين في تلك اللحظات وتحت التوتر العصبي الضاغط والقوي، حل تلك المشكلة، والمشكلات الأخرى التي أتت بسبب القرارات السريعة والتفكير تحت الضغط النفسي.
 
تأتي القوة الدرامية الأكبر للفيلم من السيناريو المحكم جدا، الذي يستخدم الطاقة الكاملة للمكان والحدث، ويستغل وقت الفيلم كله جيداً.
 
حيث يتم تكثيف قيمة المكان واستغلالها دراميا وهو الوحدة الوهمية لمكان الأحداث، والتي تدور كلها داخل الشقة، والذي يرسخ في ذهن المشاهد، صعوبة استيعاب المكان للأحداث الكثير المتشابكة والمتصاعدة بجنون، مما يوحده تماما مع الظروف النفسية لأمير وسارة، ويساهم في خلق إيقاع خاص به يساهم في الإيقاع العام للفيلم ويحقق اتزانه ويسهل مهمة المونتاج، والتي كانت أصلا سهلة لقلة اللقطات المتنوعة من قريبة جدا وقريبة ومتوسطة، فكان الأغلب لقطات عامة للشخصيات والقليل جدا لقطات قريبة.
 
 
ثم القوة الجمالية الثانية التي تستغل الأحداث التي ترتبط بالمكان، بداية من تجهيزات السفر وفسخ عقد الإيجار، إلى باقي أحداث الفيلم، والتي يضع السيناريو فيها الشخصيات الرئيسية في نقطة اللاعودة، ويستغل الإرث النفسي للحالة تلك.
 
فالمنطقي دائما قبل السفر، هو أن الأشياء جميعها تنتهي علاقتها بأمير وسارة ولو مؤقتا، فالشقة سوف يتركونها والحقائب قد تم تجهيزها، والارتباطات الاجتماعية قد تمت بروتوكولاتها ويتبقى البسيط جدا منها والخفيف الذي يمر سريعا لأن الجميع يدرك الظروف الخاصة للسفر.
يعكس السيناريو كل تلك الأشياء، فيورط أمير وسارة في التشبث بالشقة أكثر فأكثر، خوفا من كشف حقيقة موت الطفلة، إذا دخل الشقة أحد غيرهم.
 
ثم يستغل البروتوكولات الاجتماعية والمرور الخفيف للأقارب ضد أمير وسارة، كمشهد أحد أطفال الأقارب الذي قد دخل الغرفة التي بها الطفلة أثناء زيارة والدته لقريبتها سارة، فوبخه أمير على ذلك بعنف وبدا تصرفه مريباً لصغر عمر الطفل وعدم ادراكه الكافي لغضب أمير، ثم تواجد أخت أمير ووالدته في توقيت غير مناسب.
 
يستخدم السيناريو التقنية الأجمل في سيناريوهات أصغر فرهادي، وهي لعبة من المذنب؟ في بناء الشخصيات وتصاعدات الأحداث التي تأتي نتاجا لسوء التصرف، والذي سبق وان حصل سيناريو بذلك التكنيك على الأوسكار الوحيدة لإيران عن فيلم انفصال نادر وسيمين لفرهادي.
 
لكن المخرج يدرك جيداً ذلك، ويعي بأن أية تناص أو تقارب سوف يحصل في الأحداث عنده وعند فرهادي سوف يؤخذ ضده، لأنه الفيلم الأول للمخرج جاويدي، وأيضاً لأن بصمة فرهادي من الصعب تقليدها.
 
أولى ملامح السيناريو الخاص بجاويدي والتي تم تكثيفها بشدة، مما جعلها تضيف زمنا آخر للفيلم، هو أن الشخصيتين الرئيسيتين غير متزنتين، وأفعالهما بالرغم من ذلك لا تزال تتسق نفسيا مع توترهما منذ أول مشاهدهما مع بعضهما، فلا يوجد فعل يأتي من تفكير عقلاني أبداً منهما بعد بداية الذروة وأولى المواجهات بينهما عن سبب وتوقيت وفاة الطفلة.
 
ويساهم ذلك في سهولة التعرف على ماضي الشخصيات، ويساهم ذلك في زيادة الحلول السردية للمخرج، وخلق فرص أخرى لتحقيق الإثارة والمفاجأة، لأن المشاهد قد توقع أشكال معينة لردود الفعل منهما، خاصة بأن كليهما يظهر عليه الهدوء والعقلانية في بداية الفيلم، كاتصال أمير مباشرة بالإسعاف مثلا وتوبيخ سارة له بعدما كذب عليها.
 
وثاني ملامح السيناريو، هو تأثير المكان في الأحداث فبداية، قرب شقة أمير من شقة جارهما، هو السبب الرئيسي لوجود الطفلة، ثم قرب الشقة أيضا من شقة سيدة عجوز هو سبب لتصاعدات أخرى في الأحداث، ثم اقتراب الشقة من الشارع، هو سبب سماع صفارات الإنذار الخاصة بالسيارات، وأيضا وجود مصعد كهربائي أمام باب الشقة، يجعل كل من أمير وسارة أن يعتقدا بأن الذي في المصعد آت للشقة، وذلك محفز آخر للتوتر الذي ينشأ من رهبة اكتشاف حقيقة وفاة الطفلة، وكل مصادر الإزعاج تلك، التي في أحد الفترات، استمرت لمدة ربع ساعة من فيلم يستغرق ساعة ونصف، مما ينقل المشاهد مباشرة إلى داخل التوتر الهائل خارج وداخل شخصيات الفيلم.
 
الصعوبة الأكبر للمخرج، هي وجوده أصلا، فالمكان الضيق يفرض حلولا أقل، وهذا ما حدث. فالحل الأكثر مثالية لدراما المكان الواحد، هو التأطير الداخلي، والذي لم يستغله المخرج سوى في لقطات متفرقة في نهاية الفيلم، وقتما اتضحت معالم الحكاية كلها، ولم يساهم المخرج كثيرا بالكاميرا في الاستغلال الجمالي للمكان الواحد، ووجود الحواف والزوايا والكثير من أدوات التأطير.
ربما كان اختياره لشقة واحدة يحدث فيها الفيلم، هو اختيار انتاجي، أو ربما هو إختيار ذهني، يسهل مهمته في التعامل مع مكان واحد دونما الاستعانة بأدوات أخرى لمسألة التعبير الجمالي، ولعدم خلق صعوبات من تعدد الأمكنة.
 
أيا كانت أسباب المخرج في اختيار المكان الواحد، فقد كان موفقا لكن أدوات المخرج لم تستوعبه، ولولا ذلك السيناريو الجميل والإيقاع الذي ساهم بشكل كبير في خلقه، لما كان هذا الفيلم بذلك الجمال، الذي منحه الجائزة الأولى في مهرجان القاهرة السينمائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى