القاهرة ـ «سينماتوغراف»: انتصار دردير
عندما تدخل إلى منزل شيخ النقاد المصريين أحمد الحضري تجد أهم ما يشغله الكتب السينمائية وتلك الصحف القديمة التي امتلأت بأخبار الأفلام والنقد السينمائي قديما، فهو يرى من واقع متابعاته أن السينما خُلقت من أجل الترفيه للمشاهد، فكانت عبارة عن أغنية لفريد الأطرش ورقصة لسامية جمال وأفيه لعبد المنعم إبراهيم.. هذه هي الفائدة الرئيسية للسينما.
أما عن السينما الآن، فيشير إلى أن معظم الأفلام ابتعدت عن شرح الواقع، برغم الجماهيرية الكبيرة التي تتمتع بها السينما في الوقت الراهن، على العكس من السينما الأميركية التي تمكنت من خلق سوق لنفسها لم تتمكن دولة أن تخلق مثلها فكانت صاحبة الريادة حتى في فرض نفسها على الكتلة الشرقية نفسها.
أحمد الحضري ناقد سينمائي مصري، ظلت السينما على مدار سنوات عمره التي تزيد على التسعين، همه وطموحه القابع في ثنايا أحلامه، فهو واحد ممن قامت على أكتافهم السينما المصرية، ولد في عام 1926، وكان كل ما يشغله هو كيف تتحرك الشخصيات أمام الشاشة، وظلت هذه الفكرة هي الحلم الذي يراوده حتى نجح في كشف الصورة بنفسه، وحصل على لقب رائد الثقافة السينمائية.
وخلال لقاء مع «سينماتوغراف» استعاد أحمد الحضري صور الأفلام العربية والأميركية وصور النجوم التي تحتفظ بها ذاكرته قبل مكتبته وقرر أن يأخذنا في رحلة سريعة إلى كواليس عالم الفن السابع، مستعيدا من مخزون ذكرياته لقطات أفلام حفرت بصمات راسخة على الصعيدين الإنساني والوجودي.
1ـ هيمنة أمريكية
(تتميز السينما الأميركية بإتقانها كل أساسيات العمل وهو ما جعلها صاحبة الريادة في العالم كله وليس على مستوى العالم العربي فقط، بمؤسساتها واستوديوهاتها وتنظيم صناعة الأفلام بها).
يؤكد الحضري أن السينما الأميركية تمكنت من خلق سوق لنفسها ولم تتمكن دولة أن تخلق مثلها فكانت صاحبة الريادة حتى في فرض نفسها على الكتلة الشرقية نفسها، فيستطيع المخرج أن يقدم الفيلم في عام بأكمله، ومع ذلك يحافظ على أن تكون الشخصيات متماسكة والأحداث مترابطة بشكل يجعل المشاهد يعيش ويتعايش مع الفيلم بنظرية فنية بحتة، وهى خلق نوع من الحياة في السينما ليخرج من الفيلم متأثرا بقصته ويظل التأثير مستمرا لفترة طويلة، وهذا لم يأت من فراغ ولكنه جاء من إتقان للغة السينما غير متواجد عند العديد من الدول في الثقافة السينمائية لديها.
ويستطرد الحضري قائلا إن وضع السينما الأميركية يشبه تماما وضع السينما المصرية لأن ليس كل ما تنتجه السينما الأميركية ينال إعجاب الجميع، ولكن على الأقل من بين مائة وأربعين فيلما يتم إنتاجها في العام تجد ثلاثوثون فيلما تحظى بإعجاب الجميع.
2ـ مشاهدات وذكريات
(السينما المصرية مازالت تفرز أفلاما محترمة من حين إلي آخر، ومن هذه الأفلام يتذكر فيلم «عسل أسود»، الذي يتوقف عنده قائلا).
فيلم «عسل أسود» لأحمد حلمي وإخراج خالد مرعي وسيناريو خالد دياب، تدور أحداثه في إطار كوميدي حول شاب قادم من أمريكا ليرى مصر، ويقول الحضري أن الفيلم به كوميديا تم دراستها بشكل جيد دون الاعتماد على أفيه، وبرغم أن الفيلم كان من الممكن أن يصاغ أفضل من ذلك فإن مخرجه استطاع أن يخرج أفضل ما لدى الممثلين، وكان عملا كوميديا محترما.
3ـ أفلام مريضة
(الأفلام التي تتعمد إقحام الأكشن والرعب في أحداثها هي نوعية مريضة ابتعدت عن فن السينما الذي يهدف لشرح الواقع والاقتراب من مشاكل الناس الحقيقة دون تزويق أو خيال).
بتلك الجملة عبر الحضري عن نوعية الأفلام الموجودة في السوق، فوصف الأفلام التي تتعمد الأكشن والرعب بأنها أفلام مريضة لأنها ابتعدت عن شرح الواقع ويقول: إن هناك توجها من الجيل الجديد للانتقام وتطبيق هذه الأفلام، ويدخل ذلك ضمن التأثر بفن السينما، وبالتالي من الأفضل أن يتجه المخرجون للكوميديا المتقنة أو الأفلام التاريخية المحترمة التي تسعى لذكر واقع اجتماعي موجود ولا تبحث ما وراء الخيال مثل فيلم «سر طاقية الإخفاء» الذي قدمه نيازي مصطفى عام 1959 من تأليف شيخ الكتاب عبد الحي أديب، والذي يحكي عن سر طاقية كل من يرتديها يختفي، وقدم البطولة وقتها توفيق الدقن وزهرة العلا، فهذا الفيلم رغم براءة تقديمه فإنه وقتها كان قمة الخدع والإجادة في استخدام الجرافيك، حيث كان الجميع وقتها يتساءل: كيف تم تقديم هذا الفيلم وكيف تم مزج فكرة كوميديا جميلة بأسلوب إثارة، فهذه الكوميديا عندما تم تقديمها كانت تقدم شيئا جديدا في ذلك الوقت.
4ـ كلاسيكيات السينما
(رائعة صلاح أبو سيف الزوجة الثانية، ودعاء الكروان رائعة هنري بركات هما من أهم كلاسيكيات السينما، التي عبرت عن مرحلة ثرية في تاريخ الفن السابع المصري كما ومضمونا).
لن تقدم السينما المصرية عملا آخر يقوم على إتقان الممثلين مثلما تم تقديمه في فيلم «الزوجة الثانية» الذي عرض عام منتصف الستينات، من إخراج صلاح أبو سيف وبطولة سعاد حسني وشكري سرحان، وكما يقول الحضري: يحكي الفيلم عن رغبة عمدة إحدى القرى في الريف المصري في إنجاب ابن يرثه ويحمل اسمه، فيطمع في خادمته فيجبر عامله على تطليقها ويتزوجها جبرا، من خلال تهديده بتلفيق تهمة له، لكنها تستخدم الحيلة في إبعاده عنها وتستمر علاقتها بزوجها، وينتهي الفيلم بإصابة العمدة بالشلل عند علمه بحملها ويموت، فتعيد الزوجة الحقوق لأصحابها، ويؤكد شيخ النقاد أن هذا الفيلم أشبه بمدرسة تمثيلية لأبطاله، قمة الإقناع عندما يسمع صلاح منصور العمدة بحمل زوجته التي لم يلمسها، كما نرى وسط الأحداث اهتماما زائدا من أهل القرية حيث يهنئونه بقدوم الطفل الذي انتظره في الوقت الذي يصاب فيه بالشلل ولا يتمكن من الدفاع عن شرفه فيموت، وأعتقد أن أي شخص يضع نفسه مكان هذا البطل لن يتخيل نفسه في أداء تمثيلي مثلما قدمه العبقري صلاح منصور فهو طفرة فنية.
ويشير الحضري أيضا إلى أن فيلم «دعاء الكروان» الذي قدمه المخرج الكبير هنري بركات في نهاية الخمسينات، وجاء في الترتيب السادس في قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية، القصة والسيناريو والحوار ليوسف جوهر بالاشتراك مع المخرج، معتمدين في ذلك على رواية أدبية بالاسم نفسه للدكتور الأديب طه حسين وبطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وهو أهم فيلم قدمته فاتن حمامة في حياتها، القصة للفتاة الصغيرة التي تذهب إلى بيت المهندس الذي يجسد دوره أحمد مظهر لتأخذ بثأر أختها «هنادي»، وهنا قمة الارتفاع والانخفاض في أداء الدور، قمة الحب والكراهية، قمة الرغبة والبعد، وهذا الفيلم، كما يقول شيخ النقاد، لم يكن به أي كوميديا، ولكن عندما تم تقديمه اعتبرناه مدرسة كلاسيكية في فن السينما.
5ـ الأعمال التافهة
(السينما خلقت من أجل الترفيه للمشاهد، لكن هذا لا يمنع من تقديم الأعمال الجادة والتي تعكس واقع الحياة بكل ما فيه من هموم ومشاكل، وهذه هي الفائدة الرئيسية للسينما والتي يرى فيها المشاهد نفسه).
يؤكد الحضري أن الهدف الذي خلقت من أجله السينما يتمثل في الترفيه ورسم البسمة على شفاه الجمهور، فيكفيهم، على حد قوله، متاعب الحياة، ولكن تلك الكوميديا الترفيهية لم يكن مقصودا بها بعض الأفلام التافهة التي يتم تقديم بعضها الآن مثل أفلام محمد سعد، وتساءل الحضري: كيف للرقابة أن تترك أفلاما بهذا السفه لمحمد سعد الذي ترقص مؤخرته، وأنا أتذكر عندما فعلها فؤاد المهندس مرة واحدة في أحد الأفلام هاجت الدنيا وماجت وقتها، وسألوه: ما هذا الأسلوب المخنث؟ وهو أيضا السؤال الذي أطرحه الآن: ما هذا الأسلوب المخنث الذي يتبعه هذا الممثل؟ لكن يبدو أن هذا هو التأثير السلبي للسينما، فمثلما خلقت السينما إيجابيات وتأثيرا ايجابيا على البعض أتت بهؤلاء الذين يميّعون الرسالة السينمائية.
6ـ إنقاذ السينما
(لا أحكم على الأفلام السينمائية الموجودة الآن بالفشل ولكنني أتساءل: لماذا لا يتم تحسينها بالتعاون مع أدبائها؟، خصوصا بعدما أثبتت التجارب أن استغلال الرواية الأدبية يعود بالنفع علي السينما والأدب معا).
سؤال طرحه شيخ النقاد على المهتمين بالسينما وأمورها: لماذا لا تتم الاستعانة بالأدباء مثلما تمت الاستعانة من قبل بنجيب محفوظ ويحيى حقي، مؤكدا في الوقت ذاته أنه ليس كل موضوع أدبي يمكن تقديمه، مدللا على رأيه بفيلم «بيت من لحم» ليوسف إدريس الذي أخرجه أحمد الهواري وإنتاج المعهد العالي للسينما تحت إشراف المخرج علي بدرخان، وبطولة سوسن بدر، فهذا الفيلم يدعو إلى زنى المحارم ويحكي عن أم تتزوج من رجل أعمى حتى تعاشره هي وبنتاها، فهو فيلم سيئ لا يضيف للسينما حتى لو كان اسم كاتبه يوسف إدريس.
هكذا وصف الناقد السينمائى وضع السينما، وأكد أنها لا تمر بأي أزمة، والدليل هو الإنتاج المتزايد للأفلام العالمية والعربية أيضا، ففي كل يوم نرى افتتاحا لقاعات عرض إضافية، ووصلت التذكرة لمائة جنيه في مقاعد سينمات الشخصيات المهمة، وهو ما يفسر نظرية واحدة ألا وهي أن السينما مازالت ساحرة ولن يؤثر عليها الفضائيات بكل ما تقدمه، ومازال لديها رواد ذوو إمكانيات مادية أفضل.