«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
لعلك طالعت اسمه كثيرا فى أفلام الأبيض وأسود، ولعلك توقفت طويلا أمام اسمه غير المألوف، وتساءلت عمن يكون توجو مزراحى، وماهو دوره فى السينما المصرية؟!. أنه أول من أدخل صناعة السينما اليها، كما تواصلت ابداعاته كمخرج ومنتج، فقد أخرج ثلاثين فيلماً بين 1930 و1945، ليكون أحد أعمدة صناعة السينما في مصر ومكتشف المواهب التي أصبحت رموزاً للفن في العالم العربي.
توجو مزراحي الذي أصبح مع هستيريا العنصرية واللون الواحد (مخرجاً يهودياً.. أو فقط مجرد يهودي من مصر)، حتى أن الهستيريا ألغت اسمه من على أفلامه عندما كانت تعرض على شاشة التلفزيون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى
وكان رد الفعل، رسائل في الجامعات الأوروبية لباحثين مصريين يعظمون من دور توجو مزراحي ويضعونه ربما في موقع أرفع من موقعه الحقيقي.
ولكن الناقد السينمائي سمير فريد يرى انه ربما «لم يتمكن مخرج يهودي قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) من التعبير عن ثقافته كيهودي كما تمكن توجو مزراحي (1901 ـ 1986) في وقت صعود الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا ووصول العنصرية ضد اليهود الى ذروة جديدة في العالم.. وبخاصة في أوروبا.. ».
توجو مزراحي الشهير بأفلام علي الكسار.. وأم كلثوم (جعلها ترتل القرآن في فيلم «سلامة»).. وهو أيضاً صاحب سلسلة أفلام «ليلى».. وفيلم عنوانه: «العز بهدلة».. وأخيراً هو صاحب النسخة الممصرة من «غادة الكاميليا».. ونسخة «ألف ليلة وليلة» من بطولة علي الكسار.
وهو مخرج أفلام خفيفة.. ودراما بطل من عالم قديم (الريف.. الصحراء) في مواجهة عالم جديد (المدينة.. الارستقراطية) والأهم هو «أسطى» في سينما لكوميديا تلتقط المفارقة الاجتماعية وصراع الصغير في عالم الكبار، وهي سينما لمع فيها من بعده: فطين عبد الوهاب ونيازى مصطفى.. وغيرهما.
شهادة أنور وجدى
وهنا تبدو ملاحظة «أسطى» آخر محترف مثل أنور وجدى، الذي يقول: «تجتمع في توجو شخصيتان متناقضتان، تحارب إحداهما الأخرى حرباً طاحناً لا هوادة فيها. هما شخصية المنتج وشخصية المخرج. فهو بلا جدال مخرج ناجح جداً، بل أستطيع القول بأنه مخرج مصر الأول، إذ استطاع أن يقذف الى الشاشة بعدد غير قليل من الأفلام المصرية الناجحة دائماً. كما أنه استطاع أن يقدم كثيراً من الشخصيات العادية، في إطار محترم جميل، بل كثيراً ما صعد بشخصيات الى قمة المجد، أخفقت مع غيره إخفاقاً واضحاً.. ثم هو بلا جدال منتج مصر الأول، إذ استطاع في مدة وجيزة أن يسيطر على السوق السينمائية في الشرق كله، ويوجهها كيفما يريد ويهوى، لو أنه استطاع أن يفرق بين شخصيتيه المتحكمتين فيه، لكان لنا فيه رجل خالد».
وتوجو مزراحي من أصل ايطالي.. مولود في الاسكندرية في 2 يونيو عام 1901 لأسرة مصرية من أصل إيطالي كانت من أغنى عائلات يهود الإسكندرية في ذلك الوقت، لكنه درس السياسة والاقتصاد في فرنسا.. وضد رغبة العائلة (الغنية.. المتبحرة في عالم الشركات الكبرى) درس السينما كمغامر بين روما وباريس وبرلين كانمزراحي أول مصري درس وتعلم صناعة السينما في أوروبا وبعد 8 سنوات قرر العودة إلى مصر عام 1928 ناقلاً خبرته السينمائية إلى الإسكندرية، فقام بإنشاء أول ستوديو سينمائي خاص به ويحمل اسمه «ستوديو توجو» لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في حي باكوس،وجهزه بالمعدات اللازمة من ديكورات وإضاءة وأعمال المونتاج وغرف للممثلين وغيرها.
ويعد فيلم «الهاوية» أول فيلم روائي طويل (صامت) من إخراج وإنتاج ستوديو توجو، وعرض لأول مرة في دور العرض السينمائية في الإسكندرية في 25 نوفمبر عام 1930، وفى نفس العام أخرج فيلم صامت «الكوكايين»، الذي أحبته الحكومة المصرية لأنه يساند حملتها ضد المخدر المميت.. وكان هذا أول علامة تشير الى استمراره في الاخراج بعد أن كانت بدايته في التمثيل باسم «أحمد المشرقي» (وهي الترجمة العربية لاسمه العبري). وفي عام 1934 أصبح فيلم «الكوكايين» ناطقاً ومصحوباً بالموسيقى التصويرية.
شالوم فى أفلامه
في عام 1932، أنتج فيلمه الثاني «خمسة آلاف وواحد» الذي شارك في بطولته مع الممثل «شالوم». وهى الشخصية الكوميدية التي قدمها مزراحي في هذا الفيلم في العديد من الأعمال السينمائية لاحقاً، وهي تعد أول حضور قوي للشخصية اليهودية في السينما المصرية، ليؤكدعلى اندماج اليهود في المجتمع المصري في ذلك الوقت.
أنتج توجو وأخرج عدة أفلام تعتمد على الشخصية نفسها، ومن بينها «شالوم الترجمان» وفيلم «شالوم الرياضى» عام 1937.
ويعتبر توجو مزراحي أول من جلب فكرة الثنائيات إلى السينما المصرية، من خلال أشهر فناني الكوميديا في تلك الفترة «فوزي الجزايرلي» المشهور بدور «المعلم بحبح» وزوجته «أم أحمد» التي لعبت دورها «إحسان الجزايرلي» في فيلم «المندوبان» عام 1934، وقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً لم يتوقعه توجو مزراحي نفسه، فقدم للثنائي الكوميدي فيلمين آخرين عام 1935 هما «الدكتور فرحات» و«البحار».
وواصل مزراحي سلسلة نجاحاته من خلال تعاونه مع الممثل الكوميدي «علي الكسار»، إذ أخرج له مزراحي تسعة أفلام تتصف بحس الفكاهة وهي «ميت ألف جنية» و«غفير الدرك» عام 1936، و«الساعة سبعة» عام 1937، وفيلم «التيليغراف» عام 1938، و«عثمان وعلي» عام 1939، و«ألف ليلة وليلة» عام 1941، و«علي بابا والأربعين حرامي» عام 1942، و«نور الدين والبحارة الثلاثة» عام 1944، وقد استلهمت آخر ثلاثة أفلام من التراث العربى ولكن بنكهة مصرية، إذ أضاف إليها علي الكسار حس الكوميديا الساخر معتمداً على شخصية سيئة الحظ.
في عام 1939، مع بداية الحرب العالمية الثانية، انتقل «مزراحي» إلى القاهرة واشترى استوديو «وهبي» بميدان الجيزة، وسماه استوديو «الجيزة» مع الاحتفاظ باستوديو توجو في الإسكندرية، وأسس «شركة الأفلام المصرية» واتخذ علم مصر شعارا لها. وأصبح ستوديو الجيزة من أكبر الاستوديوهات السينمائية في تلك الفترة، إذ أضاف إليه «مزراحي» غرف صناعة السينما، وغرفاً للممثلين، وغرفاً خاصة بالإنتاج والديكور والمكياج والصوت، بالإضافة إلى قاعة لاستقبال الضيوف.
حكايته مع ليلى مراد
اكتشف مزراحي الفنانة «ليلى مراد» التي تعد أحد رموز الفن السينمائي والموسيقي في العالم العربي وقدمها للجمهور في فيلم «ليلة ممطرة» مع يوسف وهبي، كما أخرج لها أربعة أفلام أخرى، هي «ليلى بنت الريف» و«”ليلى بنت المدارس» عام 1941، و«ليلى» عام 1942 و«ليلى في الظلام» عام 1944، وتعتبر تلك الأفلام بصمات فنية مميزة في مسيرة الفنانة ليلى مراد، إذ مهدت أمامها الطريق الى النجومية .
ومن بين المحطات الناجحة في مسيرة توجو مزراحي إخراجه وإنتاجه أربعة أفلام يونانية للجالية اليونانية في مصر، إذ كانت تعد من أكبر الجاليات في مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات، وكانت تقام العروض الفنية اليونانية على المسارح المصرية وتكثر الأنشطة والمهرجانات الثقافية اليونانية في الإسكندرية تحديداً.
التقى توجو إحدى الفرق اليونانية المشهورة في تلك الفترة وتعاقد معها على إنتاج وإخراج فيلم طبق الأصل لفيلم «الدكتور فرحات» الذي أنتجه عام 1935 ناطقاً باللغة اليونانية وتم عرضه في اليونان عام 1937 ولاقى نجاحاً كبيراً.
ولقاء مع أم كلثوم
وفي عام 1945، أخرج وأنتج مزراحي فيلم «سلامة» لسيدة الغناء العربي «أم كلثوم”» وشاركها البطولة يحيي شاهين وزوز نبيل واستيفان روستي وعبد الوارث عسر. ويعد «سلامة» أول فيلم تاريخي قام بإخراجه مزارحي، وعرض فى9 أبريل 1945 في سينما ستوديو مصر.
ومع قرب نهاية حياته المهنية، أنتج مزراحي الكثير من الأفلام للعديد من المخرجين الشباب الواعدين في تلك الفترة، منها ثلاثة أفلام من إخراج «يوسف وهبي» وهي «ابن الحداد» عام 1944 وفيلم «الفنان العظيم» عام 1945 وفيلم «يد الله» عام 1946. كما أنتج للمخرج «نيازي مصطفى» فيلم «شارع محمد علي» عام 1944 وفيلم «ملكة جمال» عام 1946، وللمخرج «حسين فوزي» فيلم «اكسبريس الحب» عام 1946 بطولة صباح وفؤاد جعفر، الذي عرض في ديسمبر 1946 بسينما كوزمو ويعد آخر فيلم قام بإنتاجه.
مؤسسة سينمائية
توجو مزراحي لم يكن مخرجاً فقط بل كان صانع سينما بالمعنى الشامل (مونتير وسيناريست ومنتجاً وصاحب استوديوهات).. ويؤكد ذلك مقال كتبه شيخ النقاد احمد كامل مرسي في مجلة «السينما والناس» (تشرين الأول/ اكتوبر 1970).. وقال فيه: «ان توجو.. بنى استوديو الجيزة، وكان غريباً وجديداً في نوعه.. ففي الدور الأرضي توجد حجرات المعامل والتوليف والمكياج. وفي الدور الأول توجد حجرات الممثلين والممثلات ومكاتب الإدارة والحسابات. وفي الدور الثاني يوجد الاستديو وكل ملحقاته من معدات التصوير والإضاءة ومخازن الملحقات والمناظر (الديكور والاكسسوار).. الواقع أن هذه هي المرة الأولى والأخيرة، التي شاهدت فيها أحد الاستديوهات التي أقيمت على هذا الطراز وبهذا التصميم».
والمدهش أن توجو كما يقول احمد كامل مرسي: «يحرص طوال حياته السينمائية على العمل مع مجموعة من الفنانين والفنيين، الذين ارتبط بهم وارتبطوا به في كل أفلامه تقريباً.. وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الزملاء والأصدقاء عبد الحليم نصر وشقيقه محمود نصر وعبد الحميد السخاوي الذي كان يهتم بكل ما يتصل بالمناظر ولوازمها ورضوان عثمان الدينامو الحي لمعمل توجو الصغير الملحق بالاستديو. واتصل به لفترة غير قصيرة الصديق الراحل عبد الحميد زكي مدير الإنتاج المعروف كمشرف ومنظم الناحية الإدارية في شركة الأفلام المصرية، وكذلك الزميل المخرج إبراهيم حلمي ومن الملاحظ أنهم جميعهم من أبناء الاسكندرية، وأنهم انتقلوا جميعاً معه الى القاهرة، عندما عزم على نقل نشاطه الفني الى العاصمة. وعرفوا في الوسط الفني باسم (أسرة توجو السينمائية).. ».
احمد كامل مرسي عرف توجو من بعيد كمتفرج عادي، ثم عرفه من قريب عندما عمل معه كمساعد في بعض الأفلام، وكما يقول «الواقع الذي أعترف به ولا أنكره، إن العلاقات الودية بيني وبينه، استمرت حتى اليوم، على الرغم من استقراره بعيداً هناك في روما. ولقد انتهزت فرصة وجودي في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1970، وما أنهيت مهمتي كرئيس لجنة التحكيم، حتى سعيت لزيارة توجو في إيطاليا.. وفي طريق العودة الى القاهرة ذهبت الى روما وقضيت فيها بضعة أيام، واتجهت الى عنوانه بشارع ثري مادونا أي العذارى الثلاث.. وكان يوماً ممطراً شديد البرودة ولكنه أحسن استقبالي هو وزوجته، ورحبا بي ترحيباً كبيراً وغمراني بسيل من الأسئلة والاستفسارات عن مصر.. عن أم كلثوم.. عن.. وعن.. حتى أنني شعرت بالدفء من حرارة لقائهما وصدق عاطفتهما ولا أذيع سراً ولو قلت أني أتمنى أن يمد الله في عمري، وأن يهبني مالاً من عنده، لأقوم بزيارة هذا الزميل والصديق والأستاذ الكبير. وأتمتع بجولة في إيطاليا بلاد الفن والموسيقى والجبال.. ».
مشهد النهاية
اختفى توجو مزراحي من عالم السينما تدريجياً ابتداءً من عام 1946 ثم هاجر إلى إيطاليا عام 1949 بعد إعلان تأسيس دولة اسرائيل، إذ طالته أصابع الاتهام بالصهيونية. فقرر أن يهاجر إلى البلد التي انحدر منها أجداده، وظل اسمه على مدار 40 سنة بين حضور وغياب، إذ كانت تنشر أخبار متقطعة عن عودته من روما واستعداده لمشاريع سينمائية جديدة. واستمر بالعمل السينمائي في روما، ولم تنقطع علاقته بمصر، تعرض توجو في الستينيات لمشاكل صحية فانقطع عن العمل في مجال السينما تماماً، قبل أن يتوفى فى 5 يونيو 1986 تاركاً بصمات لا تمحى من تاريخ وصناعة السينما المصرية، وظل أحد أساطين السينما المصرية كما وصفته مجلة «سيني فيلم» في عددها أول ابريل 1952.
توجو مزراحي حكى في حواراته الأخيرة عن أحلامه: (الكونت دي مونت كريستو ومحمد علي الكبير). والآن بعد كل هذه السنوات، ما يزال يثير نوعاً مدهشاً من الجدل، على الرغم من أنه كان من اسطوات الصنعة المشغولين بحرفيتها ربما أكثر من أفكارها، هكذا تبدو أفلامه.. فهل نستطيع القول كان هذا المغامر الايطالي مخرجاً من مصر..؟! أم نكتفي فقط بأنه مخرجاً يهوديا من مصر؟!.