القاهرة ـ «سينماتوغراف»: محمد عبد الهادي
ترسخ تجارب السينما المصرية مقولة “نجوم الكوميديا عمرهم قصير”، فالأسماء التي صعدت بسرعة تهاوت بالوتيرة ذاتها، لاعتبارات كثيراً ما يتم إلقاؤها على ضعف السيناريو، دون النظر إلى باقي عناصر الصناعة التي تتضمن قدرات الفنان وتنويع أدواره وطبيعة الإنتاج.
ويكشف شباك التذاكر في دور السينما الواقع المتأزم للمضامين الكوميدية التي تربعت على عرش الإيرادات مطلع الألفية الثانية بموجة إنتاج مكثف يمتاز بالجودة والتجديد، ووجوه جديدة شقت طريقها لقلوب الجمهور، كان أبرزهم الفنان المصري أحمد حلمي، واحتلت الكوميديا مرتبة رابعة بعد أفلام الحركة والغموض والرعب.
ظل حلمي، الشهير بـ”البرنس”، في وضع مختلف عن فناني جيله في وهج انطلاقته الفنية بأسلوب السهل الممتنع، والتعاطي مع الدور وفقًا للمطلوب وبطريقة شبيهة بشخصيته الحقيقية، دون محاولة لإقحام قدراته التمثيلية التي لا يحتاجها المشهد أو حركات مفتعلة للوجه.
توقع كثيرون اعتلاء الفنان الذي أكمل عامه السابع والأربعين عرش المُضحِكين مع سلسلة من الأعمال الناجحة استمرت 10 أعوام حظي خلالها بإشادة النقاد والجمهور، ونال عنها التكريم والجوائز كأفضل ممثل كوميدي قبل أن يدخل في سلسلة من التجارب أغلبها غير موفق.
بريق يخفت
يعيش حلمي أسيرًا لفكرة التحول من السلبية إلى الإيجابية، فقدمها في أفلام “ميدو مشاكل” و”زكي شان” و”مطب صناعي” و”ألف مبروك” و”على جثتي” و”صنع في مصر”، والأخير مثل بداية السقوط بفكرته الطفولية عن قصة شاب يرفض مساعدة شقيقته في صناعة الدُمى فيصاب بلعنة ويتحول إلى باندا في متجر ألعاب.
تمثل تجاربه الأخيرة انعكاسًا لاعتماد الكتابات الكوميدية على أسلوب المباشرة في تفجير الضحك والتركيز على الكوميكس المولود على مواقع التواصل الاجتماعي، أو نكات قديمة لا تجد صدى كبيًرا عند قطاع الشباب، فالنكتة الجيدة تتطلب معادلة صعبة أهم أطرافها أن تحمل لقباً جديداً.
تزامن خفوت بريقه مع موجة هبوط للكوميديا بوجه عام في ظاهرة ربما تخرج الأداء من المعادلة، فالفنان أحمد مكي حقّق آخر أعماله “سمير أبوالنيل” إيرادات لا تتجاوز 422 ألف دولار، والفنان محمد سعد قدم خمسة أعمال متتالية يمكن وصفها بالفاشلة، والفنان محمد هنيدي اختفى وهجه الجماهيري المعتاد.
حاول حلمي في فيلمه “خيال مآتة” مفاجأة الجمهور بعد ثلاثة أعوام من الغياب والوعود بعمل قوي يكافئهم على انتظارهم، وراهن على الكاتب عبدالرحيم كمال المنغمس في التاريخ لإعادته للواجهة، ليقدما معًا كوميديا سطحية وشخصيات مستهلكة مثل البخيل الثري، التي تم تقديمها في عشرات الأعمال السابقة بالطريقة ذاتها.
معركة النقاد
جاء فيلم حلمي “خيال مآتة” بشخصيات رمادية غير مرسومة تقف في منتصف الطريق، فلا يمكن توصيفها بأنها مضحكة أو سخيفة، وإفراط في استخدام حكم الحياة الدارجة في سيارات النقل الجماعي بالقاهرة أو المحفورة على عربات “الكارلو”، وحتى أداء حلمي لشخصيتي “عزيز” و”يكن” في الفيلم كان فقيراً على مستوى الكوميديا والأداء.
احتمى الجيل الحالي من أرباب الكوميديا بالجمهور، في معاركهم مع النقاد الذين حاربوا فكرة الاستظراف السائدة، واعتبروا المواطن البسيط الذي يدفع جزءًا من دخله لمشاهدتهم الحكم الأول والأخير، وحينما غيّر الجمهور قناعاته بحكم انفتاحه على التجارب الغربية في عصر السماوات المفتوحة، لا يجدون ما يسترون به عورة إنتاجهم المهترئ إلا بأضعف حلقات الصناعة وهو السيناريو.
تعرض الجمهور لسلسلة تغيرات على مستوى الإدراك الفني منذ اتساع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتفتحت أعينه على تجارب السينما الأجنبية، وباتت لديه قدرات نقدية قوية، تجعله يقيم الفنان الكوميدي على الأداء وليس طريقة “انصر نجمك المحبوب.. ظالًما أو مظلومًا”.
بدأ منحنى حلمي في اتخاذ مسار إجباري نحو الأسفل بعد تجربة فيلم “إكس لارج”، قبل تسع سنوات، والذي حقق نجاحًا على مستوى الجمهور والنقاد، واعتلى صدارة الإيرادات حينها، وينتمي لشريحة الأعمال النظيفة التي تجمع بين التسلية والهدف بحبكة درامية عن مريض بالسمنة، ومحاولته التغير من أجل الحب دون الابتذال والتجريج المعتاد لذوي الوزن الزائد.
قدم بعدها سلسلة أعمال حافظ فيها على طريقته المعتادة بتغليف أدائه برداء من الطفولة، تتناسب بداية من حياته كمقدم ومخرج لبرامج الأطفال في التسعينات، ولم يبتعد كثيرًا عن دائرة الشاب الفوضوي خفيف الظل لجذب أجيال تعشق تلك المرحلة العمرية بانطلاقها وتحررها والهوس بالمستقبل، لكن تكرارها المستمر أفقده البوصلة.
يعترف حلمي خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم “الديكور” والذي عاش في إحدى الدول العربية فترة طويلة من حياته، بأنه دخل عالم التمثيل بالصدفة البحتة في السنة النهائية لمعهد الفنون المسرحية بمنصب شاغر لدور شاعر مجنون، وخاض بعدها تقديم برامج الأطفال، وأهمها برنامج “لعب عيال” وحقق نتيجة طيبة.
قاطع شباك التذاكر الأفكار المستهلكة التي لا تتعدى خليطاً من الإفيهات المطبوخة مع توابل حريفة من الإيحاءات الجنسية والعبارات المطاطة حاملة المعاني الملتبسة، أو الإسطوانات المشروخة التي لا تخرج عن حبكات محفوظة عن صراعات الأجيال، وتناقضات العلاقات العاطفية والسخرية من ذوي الإعاقات البدنية.
يُشهِر القائمون على صناعة الكوميديا أسلحتهم عند اتهامهم بالتكرار، فالأجيال القديمة التي مثلت المسطرة التي يقاس عليها النجاح قدمت شخصيات مستنسخة في كثير من أعمالها، لكنهم يتناسون أن الأداء والحبكة وذكاء الفنان تحسم المعادلة، فالفنان الراحل إسماعيل ياسين قدم شخصية واحدة نحو خمس مرات، لكن بشكل ومواقف مختلفة لكل منها.
ربما ترجع أزمة الكوميديا الحالية إلى انعزال الجيل الحالي من الفنانين والكتاب عن جمهورهم بالعيش داخل المدن المغلقة عالية الأسوار “كومباوند” التي لا تمنحهم اختلاطًا بالأماكن الشعبية المنبت الأول لفن الإضحاك الحقيقي، فالكثير من نجوم الماضي كانوا يضيفون إلى السيناريو خصوبة بحكم معايشتهم للواقع ومشكلاته.
لا يخفي حلمي تلك العزلة منذ الشهرة فلم يعد يحتك بالشارع، ولم يعش في مناطق شعبية صاخبة يمتزج فيها بالبشر وبروح المكان أو يركب مركبة “توكتوك” ويقضي إجازته السنوية في الخارج هروبًا من التقاء الجماهير، ويقيم مع زوجته الفنانة منى زكي في منتجع مغلق مثل عشرات الفنانين.
قال الفنان الراحل شارلي شابلن إن “النجاح أمر مدهش لكنه يستتبع جهدًا للحاق بإيقاع تلك الحورية الخائنة التي تسمى الشعبية”، أو بمعنى آخر بذل الجهد المضاعف والرؤية المغايرة للسائد للحفاظ على شغف الجمهور، وهو أمر مفقود في السينما المصرية حاليًا التي تعتمد على الاستسهال في الأداء والتصوير وكتابة القصة.
وتفتقد السينما شخصية المخرج القادر على تطوير مواهب فريق العمل، ما فاقم مشكلات الصناعة، على عكس ممثلين كبار يرجع نجاحهم إلى الطاقم المختفي وراء آلات التصوير ومساهمته في تطوير قدرات فريق العمل، فمخرجون مثل فطين عبدالوهاب ونيازي مصطفى ومحمد عبدالعزيز وشريف عرفة، شكلوا أجيالاً كاملة من المبدعين في مقدمتهم عادل إمام وأحمد زكي ونور الشريف.
تعاون حلمي في حياته المهنية مع المخرج شريف عرفة مرتين، في فيلمي “عبود على الحدود” عام 1999 و”إكس لارج” عام 2011 وكانا أفضل عملين في سجله التمثيلي، بعد أداء لافت للانتباه في دور عاطف في فيلم “الناظر”، لكنه خاض بعدها تجارب بطولات مطلقة مع أسماء تكاد تكون ثابتة من المخرجين لم يُطوروا الأداء إلا على مضض، فظل أسيرًا لتجربة أول أعماله “ميدو مشاكل” ولم يتحرر منها.
ينطبق الأمر ذاته على منافسيه من فئة الممثل الكوميديان، فمحمد سعد لم يخلع عباءة شخصية “اللمبي”، وأحمد مكي استهوته شخصيات مسلسل “الكبير”، ومحمد هنيدي لم يغير من طريقته المعتادة في الإضحاك، ويعيش حاليًا على ذكريات مقاطع أفلامه التي يعيد نشرها حالياً.
إشكالية جيل
تبدو إشكالية جيل حلمي في الوقوع في إغراء الفكرة دون النظر إلى الحبكة الشاملة، ففيلم مثل “كده رضا” الذي يدور عن ثلاثة توائم يعيشون بهوية واحدة مغرية بمفارقاتها، لكنها جاءت ضعيفة على مستوى المنطق والتبرير، فلجوء والدهم لتلك الحيلة الخطيرة لا يتعدى مجرد تهريبهم من الخدمة العسكرية على اعتبار أن الابن الواحد فقط معفى من أدائها.
يتناسى بعض الفنانين دورهم ويتعدونه إلى الهيمنة، فتدب في رأس أحدهم فكرة، فيرسم ملامحها لكاتب سيناريو مقرب يقتصر مجهوده على تطويل الأحداث فقط، ثم يختار مخرجًا يحرص على منح المساحة الكاملة للنجم الذي تعاقد معه، ليولد في النهاية عمل يخضع لرؤية شخص واحد بلا نقاش أو جدال.
دخل حلمي في تجربة الإنتاج السينمائي لعشرة أفلام يغلب عليها الطابع الكوميدي بعضها لم يسمع الجمهور عنه يومًا مثل “الباب يفوت جمل” لشريف سلامة، و”شكة دبوس” لخالد سليم، ومنها أعمال كان هو بطلها ومنتجها ولم تحقق نجاحًا جماهيريًا مثل “صنع في مصر” و”بلبل حيران” و”على جثتي”.
تعاني الكوميديا المصرية من اتساع الخطوط الحمراء التي لا يجب أن يقربوها مع انحسار مساحة حرية الرأي والتعبير، وافتقاد الكتاب الجدد لقدرات التحايل بالفكرة واللفظ التي تمكنهم من الالتفاف على مقصلة الرقباء وتحميل أعمالهم نفحات من النقد الاجتماعي والسياسي حتى يخرج الجمهور، مشبعًا بالضحك والتقدير لمن ينقل صوته ومعاناته إلى الشاشة.
تعرض حلمي إلى لدغة حينما اقترب من عالم السياسة في فيلم “18 يومًا” أول الأعمال السينمائية الخاصة بثورة 25 يناير، ومثل تجربة فريدة من نوعها بعشر قصص مختلفة لكل منها طاقم تمثيل وإخراج وتأليف مختلف، لكنه لا يزال ممنوعاً من العرض حتى الآن لأسباب غير معروفة رغم تأكيد الرقابة على المصنفات الفنية أنها لا تقف وراء القرار.
ربما مشكلة حلمي في محاولته إرضاء النقاد والجمهور في الوقت ذاته، فيتحرر من عالم الكوميديا أحيانًا ويخوض تجارب خارجها بعضها دراماتيكي مثل “آسف على الإزعاج” للبرهنة على أن قدراته تتعدى حصره في دور الشاب خفيف الظل في مغامرات يحكمها المناخ السائد حينها، وطبيعة أعمال المنافسين.
تورط الفنان بسبب تلك الرغبة الملحة في تجارب غير محسوبة كان من ضمنها لعب البطولة الصوتية في مسلسل “العملية ميسى” قبل خمسة أعوام عن قرد ذكي تسعى الاستخبارات الأميركية “سي.آي.أي” لخطفه، واعترف صناعه بأنهم استعانوا بالفنان الكبير فقط من أجل تسويق العمل، وليس لاعتبارات تتعلق بأدائه أو حتى بتميز صوته.
يلجأ بعض رموز الكوميديا حاليًا إلى عالم الإعلانات التجارية المضحكة بحثًا عن مساحات للتواجد المعنوي والمالي، فحلمي يخوض حملة إعلانية لإحدى شركات الاتصالات، ومحمد هنيدي يُسوِق لشركة شهيرة للنقل الذكي، وهاني رمزي أصبح متخصصًا في إعلانات الملابس الداخلية.
ما يجعل حلمي لا يتعرض للهجوم ذاته كغيره من الفنانين عوامل شخصية في المقام الأول تثير التعاطف معه، بمبادراته الإنسانية والحياتية التي يتصدى لها، كمبادرة “دكان الفرحة” لتيسير زواج الفتيات الأولى بالرعاية، واختياره سفيرًا لمشروع الغذاء من أجل التعليم.
يسود بين عدد كبير من فناني الكوميديا اعتقاد بأن الجمهور يميل دائمًا إلى الفيلم الكوميدي نتيجة للظروف الاقتصادية لكن الإشكالية في فقر الكتابة وغياب الأفكار المبتكرة، متناسين أن الإضحاك يحتاج في تجسيده إلى روح وطريقة، فالنكتة مهما كانت جيدة تتوقف على أسلوب من يقدمها، فإما يمنحها الحياة فتقتل من يسعها من الضحك أو تصبح سخيفة مثيرة للاشمئزاز.