أحمد زكي.. عبقرية الأداء في ممثل استثنائى

«سينماتوغراف» ـ محمود درويش

عاشت السينما المصرية تختار البطل الأول بمقاييس خاصة، تعتمد بالدرجة الأولى على وسامته التى تجعل البطلة تتعلق به وتذرف الدموع من أجله، لكن أحمد زكى قاد انقلابا كبيرا فى مفهوم البطل فى الأفلام المصرية، فمع ظهور هذا الممثل الاستثنائى بموهبته الآخاذة استطاع أن يفرض نفسه على الجميع ويضع نموذج مختلف بمواصفات جديدة للبطل السينمائى، ومع اصراره ونجاحه، قفز بسرعة الى أدوار البطولة اعتمادا على صدق موهبته التى اعترف بها النجم الكبير عمر الشريف مؤكدا أنه أحد الموهوبين الكبار فى فن التمثيل وأنه لو كان أجاد الانجليزية مثله لخطفته هوليوود، وإذا كنت تريد مثالا يؤكد أن الوسامة ليست الطريق إلى النجومية، وأن الموهبة الحقيقية تؤكد وجودها من اللحظة الأولى، لن تجد أفضل من العبقري أحمد زكي. هكذا هي البدايات، فلا أحد يولد عملاقا، ولا بطلا، لكن المهم أن يلفت الممثل إليه الأنظار في أول ظهور له وهذا تماما ما فعله الفتى الأسمر احمد زكي، الذي ولد يوم 18 نوفمبر 1949 وتحل ذكرى وفاته يوم 27 مارس من كل عام بعد رحلة قصيرة بعمر الزمن، عميقة بحجم إبداعه، حافلة بالفن والتقمص وأداء أصعب الأدوار التي بات معظمها مرجعا في عالم التمثيل.

المثير أن هذا النجم السينمائى، دخل التمثيل من بوابة المسرح، وقدم بمشهد صغير لـ «جرسون» يهوى التمثيل، يقوم بتقليد الفنان الكبير محمود المليجي أداه أحمد زكي وهو لايزال طالبا بمعهد الفنون المسرحية، وذلك فى مسرحية «هاللو شلبي» عام 1969، والتي كان بطلها سعيد صالح، ورغم قصر مساحة الدور لكن موهبة الفتى الأسمر المبكرة كانت كفيلة بلفت الأنظار إليه لتواتيه الفرصة الثانية على يد المخرج جلال الشرقاوي فيشارك في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، مع عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي عام 1972.

مسرحية العيال كبرت

ولم تتح له «مدرسة المشاغبين» الفرصة الكاملة للكشف عن امكاناته كممثل وسط نجوم الكوميديا عادل أمام وسعيد صالح وحسن مصطفى، لكنها كانت كافية لأن يعرفه المشاهدون باسم أحمد الشاعر. ومن بعدها جاءت مسرحية «العيال كبرت» مع سعيد صالح ويونس شلبي، في دور الابن المتزن لتظهر مواهبه أكثر كممثل مسرحي.

لم تلبث السينما أن فتحت ذراعيها للنجم الأسمر الذي استطاع أن يحقق نجاحات متتالية في المسرح، وجاءت البداية بدور صغير في فيلم «ولدي» 1972 مع فريد شوقي وسهير رمزي ومحمود المليجي. ثم فيلم «شلة المشاغبين» عام 1973 مع أبطال مسرحية المشاغبين عادل امام وسعيد صالح ويونس شلبي عقب النجاح المدوى الذى حققته المسرحية فكان الفيلم استغلالا لهذا النجاح ثم «أبناء الصمت» 1974 مع نور الشرف ومحمود مرسي وميرفت امين.

الهروب

صدمة الكرنك

وسرعان ما لاحت فرصة البطولة التى كاد يطير بها فرحا، لكن الفرحة لم تطل وتحولت لصدمة عنيفة حين رشيحه المخرج على بدرخان لدور البطولة أمام سعاد حسني في فيلم «الكرنك» عام 1957، وراح يستعد للدور لكن شركات التوزيع كان لها رأيا آخر، وهكذا ذهب الدور إلى نور الشريف وكانت الصدمة من نصيب زكي الذي لم يجد بجواره سوى الشاعر الكبير صلاح جاهين ليهون عليه ويدفعه للصبر والاصرار على الاستمرار.

وتوالت الأفلام مثل «بدور» و«صانع النجوم» إلى أن جاءته البطولة مجددا أمام سعاد حسني مجددا في فيلم «شفيقة ومتولي» عام 1987، وبرغم صغر مساحة الدور إلا أنه أدائه كان كفيلا بأن تلتقطه عين المخرج الكبير يوسف شاهين ويمنحه دورا رئيسيا في «إسكندرية ليه».

الباطنيه

وجاءت الثمانينيات لتشهد الانطلاقة الحقيقة لأحمد زكي مع فيلم «الباطنية» 1980 الذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا وبرغم مشاركة الكثيرين من عمالقة التمثيل بالفيلم مثل فريد شوقي ومحمود ياسين وغيرهما إلا أن أحمد زكي بأدائه كان لافتا وبدأ يرسخ وجوده كبطل سينمائى.

انطلاقة الثمانينات

وشهدت الثمانينات مرحلة جديدة فى مشواره كممثل بتعاونه مع كبار المخرجين أمثال محمد خان وخيري بشارة ورأفت الميهي، وتجربته الأهم مع عاطف الطيب، وتوالت أفلامه ومنها «العوامة 70» «عيون لا تنام» و«موعد على العشاء» و«النمر الأسود» و«الراقصة والطبال» و«الحب فوق هضبة الهرم» و«البرئ» و«زوجة رجل مهم»، و«الهروب».

موعد على العشاء

وتواصل نجاحه في التسعينيات من القرن الماضى مع «ضد الحكومة»، «الهروب»، «البيضة والحجر» و«كابوريا» و«الهروب» و«ضد الحكومة» و«أرض الخوف» و«اضحك الصورة تطلع حلوة» و«ناصر 56» قبل أن تنتهي رحلته سريعا في بداية الألفية الثانية بـ«أيام السادات» و«معالي الوزير» وأخيرا «حليم».

لم يكن أحمد زكى يشغله مساحة الدور وعدد المشاهد حتى بعد أن صار نجما سينمائيا ينفرد بالبطولة وتحقق أفلامه نجاحا جماهيريا ونقديا، بل يعنيه الفيلم أكثر ففى «أحلام هند وكاميليا» 1988، ستجد أن البطولة المطلقة لنجلاء فتحي وعايدة رياض، بينما لا يتجاوز دور أحمد زكي 20% من زمن السيناريو وبرغم هذا فإن الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين كتب في صحيفة «الأهرام» إن أداء أحمد زكي والشحنة التي يقدمها ومشاعره التي أراها في هذا الفيلم تتجاوز أي تعليق وتتجاوز أيضاً أي مدح، وكتب الناقد السينمائي طارق الشناوي في روز اليوسف «نعم ظهر أحمد زكي في عدد محدود جداً من المشاهد بالقياس لأغلب أفلامه السابقة لكن عمق أدائه لا يظهر فقط علي الشاشة ولكن من الممكن أن تلمحه حتي في المشاهد التي يغيب فيها لأن تأثير الممثلين أصحاب الإشعاع الخاص لا يحتاج بالضرورة لأن نري صورهم علي شريط الفيلم، وقد خرجت من «أحلام هند وكاميليا» بإعجاب ببطلتي الفيلم نجلاء فتحي وعايدة رياض وبإعجاب أشد للغائب الحاضر عن أغلب مشاهد الفيلم أحمد زكي».

البيه البواب

فنان متعدد الأوجه

كان أحمد زكي يشبه فى ملامحه أي شاب مصري، ولهذا تنقل بين شخصيات متباينة، ومتناقضة، كان يجد سعادته كممثل كلما تقمص وجها جديدا ليفاجئ به جمهوره، فكان من السهل عليه أن يتحول إلى عامل إصلاح سيارات في «عيون لا تنام» أو ضابط أمن في «زوجة رجل مهم» أو طبال في «الراقصة والطبال» أو حلاق سيدات في «موعد على العشاء» أو بواب في «البيه البواب» أو رئيس بمكانة جمال عبد الناصر وأنور السادات في «ناصر 56» و«أيام السادات».

ايام السادات

كل هذا كان كفيلا لأن يدفع الكاتب والناقد السينمائي إبراهيم العريس لأن يسأل أحمد زكي يوما عما إذا كان علينا أن نتوقع أن يلعب دور ماري منيب في فيلم عن حياتها، ليجيبه أحمد زكي بكل هدوء وكأنه يحل معادلة حسابية بسيطة: «لم لا؟ فقط سيكون التحدي مثلثاً. التحدي العادي الذي يجابه الفنان حين يقوم بأي دور جديد، والتحدي الثانى في لعب دور شخص يعرفه الناس جيداً، وصورته معهودة، ثم تحدى قيام ممثل بأداء شخصية إمرأة»، وهكذا استطاع أحمد زكى أن يصل للقمة بذكائه فى الاختيار وموهبته الكبيرة كممثل التى جعلته يتقمص ببراعة كل الوجوه الممكنة، ستجد وجهه السياسي ظاهرا وسيتردد صدى صوته بقوة وهو يقول «كلنا فاسدون» فى أدائه لشخصية مصطفى خلف محامي التعويضات في «ضد الحكومة». السياسة كانت حاضرة أيضا وهو يؤدي دور منتصر في «الهروب» ورأفت رستم في «معالي الوزير» وهشام الضابط في «زوجة رجل مهم». فهذا التماهى الذى يحققه مع كل شخصية يؤديها هو إبداع خاص به وحده يكشف عبقرية هذا الفنان، هذه العبقرية تجعلك تشعر بالانقسام الذي يشعر به يحيى أبو دبورة في «أرض الخوف» ما بين الضابط وتاجر المخدرات، هي العبقرية نفسها التي تجعلك تشعر بكل ظلم الدنيا وأنت تبكي على نهاية أحمد سبع الليل في رائعة عاطف الطيب «البريء».

البريء

وعلى النقيض من وجهه السياسي، سيطل عليك بوجهه الكوميدي والاجتماعي الذي يبدو واضحا في شخصية عبد السميع في «البيه البواب» أو أنور في «أربعة في مهمة رسمية» أو مستطاع أستاذ الفلسفة الذي تحول إلى دجال في «البيضة والحجر».

وفي كل رحلته لم يتخل أحمد زكي عن وجهه الاجتماعي، فهو علي الباحث عن شقة وعن حلم الزواج في «الحب فوق هضبة الهرم» وهو عبده في «الراقصة والطبال» وزين في «هيستيريا» وسيد غريب المصوراتي في «اضحك الصورة تطلع حلوة»، فقدم رحلة كفاح محمد حسن المصري في «النمر الأسود» وقصة صعود زينهم في «الامبراطور» وشارك مع إيناس الدغيدي في رسم تفاصيل شخصية الصحفي حسام في «امرأة واحدة لا تكفي»، والأمر الذي فاجأ البعض أن يكون لهذا العبقري وجه جديد استعراضي، وهو يرقص في «مستر كاراتيه» حيث دفع حسن هدهد جيلا كاملا من الشباب لتقليده في «كابوريا»؟.

حليم

أما التحدى الأكبر فى حياة هذا الممثل العبقرى فكانت في تجسيده لدراما السيرة الذاتية وهو تحدى جديد خاضه واستطاع أن يؤكد تفوقه البارع فيه بقدرته الرهيبة على التوحد مع كل شخصية، ليس على مستوى الشكل فقط، وانما تسلل الى روح الشخصية، وعاش أدق تفاصيلها، فعلها مع طه حسين في «الأيام» وجمال عبد الناصر في «ناصر 56» وأنور السادات «أيام السادات» واختتم الرحلة بـ«حليم».

Exit mobile version