*** أسامة عسل
فيلم (أرض الرحّل – Nomadland)، من تلك النوعية التي تشد المشاهد، وتتركه في حالة من الشعور بالرضا والسلام، وتحفزه على التفكير في حياته ومغزاها، وتضفي على أحاسيسه لمسات متدفقة من الأمل، وتملأ عينيه بلقطات جميلة تتعلق بها مع طول رحلة بطلة العمل (فيرن – فرانسيس مكدورماند)، التي تتذكر كلمة أبيها وما تحمله من مغزى (ما نتذكره هو ما يعيش ويبقى).
وهذا ما نراه منذ بداية الفيلم إلى نهايته، ومع كل ما تعانيه، لا يطرق الندم بابها، بل تساعد كل من تقابله بود وترحاب، برغم كونها لا تملك شيئاً سوى مقطورتها؛ بيتها المتنقل، وإحساسها ورغبتها في أن تعيش الحياة كما هي وتستمتع بها.
في الدول الغربية، حينما تتدهور صناعة أو حرفة ما وتنتهي، يختفي مكانها وسكانها، ولا يتبقى سوى أطلال لمبانٍ خاوية، أو آثار لبشر كانوا يعيشون يوماً ما في هذا المكان، وهذا ما يسلط عليه الضوء فيلم (أرض الرحل) الذي حصل على مجموعة كبيرة من الجوائز، (الأسد الذهبي لمهرجان البندقية السينمائي، جائزة الجمهور في مهرجان تورونتو، وجائزة أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل ممثلة في أوسكار 2021).
تدور أحداث الفيلم بصورة عامة عن الرحل، وهم مجموعة من الناس يتركون الحياة العادية نتيجة ظروف أو غيرها، ويعيشون في سيارات تنتقل بين الأرصفة والشوارع إلى الصحارى والبراري في الغرب الأمريكي، وتنضم إليهم (فيرن) التي تغادر منزلها في بلدة (إمباير) بعد وفاة زوجها، وتلاشي مهنته، واختفاء صناعة ألواح الجص، حيث تعمل في مهن بسيطة خلال تجوالها في أماكن متفرقة، وتتعرض لمواقف مختلفة، وتقابل أشخاصاً عاديين (ليسوا نجوم سينما) بل هم من البيئة التي شهدت تصوير العمل الذي يقترب كثيراً من تصنيف (سينما الطريق)، وهو أسلوب تعمدته المخرجة الصينية كلوي تشاو، التي لفتت انتباه السينما العالمية لها منذ فيلمها الأول (أغانٍ علمها لي إخواني) عام (2015).
في الفيلم، تبدو (فيرن) وكأنها ترصد بعينيها كل شيء، فهي تشاهد أكثر مما تتحدث، تترك الجميع يتكلمون على سجيتهم، وتعكس من خلال ما تتعرض له من عدم استقرار، بعد أزمة عام (2008)، واضطرار الكثيرين للعمل في سن متقدمة، نظراً لعدم وجود تغطية لهم في الشؤون الاجتماعية.
يدعم العمل هذه الفكرة، عبر قصص من تقابلهم (فيرن)، حيث توفر لهم المخرجة وقتاً طويلاً كافياً لسرد حكاياتهم، التي اضطرتهم للعيش في شاحنات متنقلة، أو العمل بدوام جزئي في الأعياد، بتغليف منتجات شركة (أمازون) التي توفر لهم مكاناً مناسباً لركن مقطوراتهم.
وفي ظل ارتحالها المستمر بين المدن، تحاول بطلة الفيلم مواجهة واقعها مستعينة بفيديوهات لبوب ويلز، الذي يظهر بشخصيته الحقيقية عبر اليوتيوب، مقدماً خبرته في العيش داخل سيارات، حيث يقيم معسكرات تدريبية وجلسات تعريفية بهذا النمط من الحياة.
في هذه التجمعات، تتعرف (فرانسيس مكدورماند) إلى أصدقاء جدد وتزور معهم معرضاً لحافلات فارهة، تبدو أقرب إلى الشقق الفخمة، وإن كانت على عجلات مقارنة بسياراتهم المتهالكة، وخلال هذه المعسكرات تتلقى كذلك توجيهاً ثقافياً حين تقابل المتخصصين في هذا الأمر، حيث يؤكدون لها أنهم باختيارهم العيش في سيارة، فإن صلتهم زادت بأمهم الأرض، وصاروا أكثر إنصاتاً للوجود.
صراع (فيرن) غير كبير لكنه واضح، حيث نشهد مراحله الأخيرة، وانتصارها على ظروف جعلتها في السابق أسيرة لشخصية أخرى فرضتها على نفسها لترضي أدوارها الاجتماعية المختلفة، فهي امرأة تنتمي من داخلها إلى (الرحّل)، حتى قبل أن تعرفهم، لكن الحب قيدها بعلاقة زواج، وعلاقة الزواج قيدتها بزوج ومنزل وأسوار محيطة بروحها وجسدها، ومن ثم فإنها لم تهرب من حزنها على وفاة زوجها إلى أرض (الرحّل)، بل هي هربت من قيود كانت مفروضة عليها إلى جنتها الخاصة، التي قد تبدو صعبة، لكنها وجدت فيها ملاذها الأخير.
يستعير الفيلم روح الترحال التي تقوم عليها فكرته، فيجمع بين روح السينما الوثائقية والروائية في سرد غير نمطي، لا يعتمد على بداية وذروة ونهاية، ويميل إلى اللقطات الطويلة، وخصوصاً العلوية (عين الصقر)، حين يستعرض الطبيعة الخلابة والغابات المتحجرة في (نبراسكا، ساوث داكوتا، نيفادا، أريزونا، وكاليفورنيا)، مع استخدام المساحات الواسعة في الصحراء لتوضيح السلام والرضا الداخلي الذي تشعر به شخصية البطلة في البراري، والاعتماد على إضاءة طبيعية في أكثر المشاهد، وأيضاً إدارة الممثلين غير المحترفين، ليتناغموا مع ممثلة ونجمة كبيرة مثل فرانسيس مكدورماند.
تأتي نهاية (أرض الرحّل)، وكأنها ترنيمة تحدّ للمشردين حول العالم، مع إلقاء (فيرن) نظرة أخيرة على بلدة (إمباير) الخالية، والمصنع والمنزل اللذين قضت فيهما معظم حياتها، ووصفها للمنظر بشكل واضح من بابها الخلفي (لم يكن هناك شيء في طريقنا)، لتذوب الشاشة مع ألوان الطيف المختلفة وتأمل من قبل بطلة الفيلم، وهي تحدق في غروب الشمس الرائع، الممتزج مع مقاطع بيانو، يفتح عقولنا على ذاكرة قد يدفعنا ما فيها إلى التمسك بالأمل والإقبال على الحياة.