كان ـ «سينماتوغراف» : عبد الستار ناجي
يعتبر المخرج الروماني كرستيان منجيو أحد أبرز الرهانات السينمائية الرومانية والأوروبية، خصوصاً بعد تألقه في تقديم فيلم «أربع أشهر وثلاثة أسابيع ويومين» الذى نال عنه السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي العام 2007، ليحقق قفزة كبرى عبر لغته السينمائية والاحترافية العالية التى تعامل بها مع موضوع يتناول بالنقد العميق لمرحلة الرئيس الروماني الأسبق اندرية تشوتسكو، واليوم حينما يعود كرستيان منجيو إلى «كان» فإنه يقدم لنا تجربة سينمائية لا تقل أهمية ومكانة عن جملة تجاربة السابقة ومنها «حكايات العصر الذهبي» و «جاف التلال» و «التخرج من البكالوريا».
فيلمه الجديد يحمل عنوان «RMN ـ أر. أم. أن» وهو اختصار لمصطلح (الأشعة السينية للدماغ)، حيث يقدم لنا منجيو عمل محكم الصنعة متماسك يركز على الحالة الراهنة لرومانيا ولا يتردد في الكشف عن عناصر الخلل في التحول الاجتماعي، والنقد الصريح للعنصرية الواضحة تاره تجاه الغجر وأخري تجاه العماله الأجنبية القادمة من آسيا التى يرفضها المجتمع الروماني كما يرفض العرب والمسلمين وكل الملونيين .
تجري الأحداث قبيل أيام قليلة من أعياد الميلاد، حيث يفترض أن تتجمع وتتوحد الأسرة الرومانية أو الأوروبية بشكل عام، ونتابع حكاية ماثيو الروماني الذي يفقد عمله في إحدى مذابح الأغنام في المانيا، حينما يصفة أحد زملاءه في العمل بـ «الغجري»، مما يضطره إلى ضربه والهروب عائداً إلى إحدى مدن رومانيا بعيدة عن العاصمة بوخارسيت، وهي مدينة ترانسلفينان المليئة بعدد الطوائف والأديان .
في البداية، يواجه حادثة غريبة تعرض لها ابنه الصغير خلال توجهه لمدرسته جعلته عاجز عن النطق، والخوف من العودة إلى ذات الطريق الذى يسير به يومياً، ويحاول ماثيو مرافقة طفله يومياً للعودة التدريجية للدراسه، كل ذلك على خلفية توتر العلاقة من زوجته ومحاولته لعودة العلاقة مع حبيبته السابقة، والتى انفصلت عن زوجها، وهي تدير أحد المخابز الألكترونية التى تؤمن الخبز للمنطقة، والتى تضطر أمام الحاجة للعماله أن تستعين بعماله قادمة من سيرلانكا، أمام الكلفة المرتفعة للأيادي العاملة الرومانية أو تلك القادمة من أوروبا، ولكن القرية تشتعل عضباً عنصرياً بحجج واهية تاره الإتهام بأنهم مسلمين، وبعد الاكتشاف بأنهم مسيحيين تأتى الاتهامات كونهم ليسوا من أوروبا ولا يتمتعون بالنظافة، وتظل تحاصر العماله في كل مكان عبر طرح عنصري لا يري التغيير والمنطق والتطور الحقيقي واحتياجات كل بلد من أجل النهوض .
تتداخل الأحداث، طفل فقد النطق ولا نعرف حيثيات الحادثة، فهل تعرض للتحرش أو شاهد دباً وهو يقطع الغابة إلى المدرسة، ورجل بلا عمل، وقسيس يحاول استرضاء سكان القرية على حساب القيم الدينية والإنسانية، وشابة تحاول مساعدة بلادها من خلال المصنع الذي تديره والمجهز تقنياً بموصفات صحية وانتاجية عالية الجودة، حتى يأتى الموقف الأكثر أهمية والمدهش، حيث يلتقي أبناء القرية بجميع أطيافهم عبر مشهد ثابت لأكثر من ربع ساعة وحوار يبدأ منذ اللحظة الأولي وهو يعزف على أوتار العنصرية البحته التى تغرق بها رومانيا والكثير من دول العالم ضد كل ما هو أجنبي وملون ومختلف.
مشهد سينمائي يعرفنا عن حالة الاقتدار العالي المستوى الذى يتمتع به هذا المبدع الروماني كرستيان منجيو ، والذى قام أيضاً بكتابة السيناريو والحوار من خلال لغة تحمل التصادم والمواجهة والكشف الصريح للذات المتطرفة والتى لا ترضي بالحوار أو التفاهم .
سينما منجيو تأخذنا إلى التحليل الصادم والدخول في إلتباسات يظل محورها الأساسي تسليط الضوء على القضية المحورية .. ففي عالم العنصرية ستسكت الأجيال ولن تستطيع المضي إلى المستقبل، وستكون هناك عزله بين الأفراد والطوائف وقبل كل هذا وذلك لن تكون البلد قادرة على المضي قدماً، وتلبية احتياجاتها عبر الاستعانه بالعمالة المتخصصة من أنحاء العالم، وفي المشهد يبلغ ماتيو عن انتحار والده ويعمل على كشف الكثير من الغموض، ومن بينها أن مشاهدة ابنه وهو في الطريق إلى المدرسة حلماً عن رجل منتحر، وكأنه يري المستقبل وحينما يحاول ماثيو حماية ابنه يكتشف بان الغابة مليئة بالدببة التى تمثل التوحش الذي يحيط به، ويعكس ذلك على بلاده ومستقبله وعلاقاته الإنسانية والاجتماعية .
قدم شخصية ماثيو «مارين جريجور» بأداء عال ومفهم كبير للشخصية والإشكاليات التى تعانى منها، والظروف التى تحيط بها ومن بينها العنصرية المكتومة، والعلاقة المزدوجة بين زوجته وحبيبته، وأيضاً غضب أهل القرية وعنصريتهم الصريحة، مدير التصوير تيدور فلاديميير باندرو واحد من الرهانات الإيجابية للفيلم عبر الحلول البصرية التى قدمها بالذات في مشهد الاجتماع الذى انتقل من الكنيسة إلى المركز الثقافي، وأظهر المؤسسة الدينية والسياسية والاجتماعية بكاملها متطرفة عنصرية رافضة للآخر حتى الغجر من أبناء البلد الروماني …
كرستيان منجيو يدق ناقوساً كبيراً.. احذروا العنصرية لأنها انتحار للأجيال وصمت تجاه المستقبل، ودمار سياسي واجتماعي شامل، هكذا تكون السينما حينما تذهب إلى الحقيقة.