«أسوأ شخص في العالم» وخيارات البحث عن متنفس للحرية والحب والحياة
الجونة ــ خاص «سينماتوغراف»
ضمن مسابقة اﻷفلام الروائية الطويلة، في مهرجان الجونة السينمائي بدورته الخامسة، يعرض اليوم فيلم «أسوأ شخص في العالم ـ The Worst Person in the World » للنرويجي يواكيم ترير، الذي حصدت بطلته (رينات راينسفيه) على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان خلال دورته الرابعة والسبعين، عن دور جولي الفتاة التي ستبلغ الثلاثين من عمرها وحياتها فوضى وجودية، وتلقي بنفسها في علاقة على أمل أن تمنحها منظورًا جديدًا لحياتها، غير أنها تدرك أن بعض خيارات الحياة قد فاتتها بالفعل.
النرويجي يواكيم ترير، مخرج وكاتب سيناريو مشهور دوليًا. حصل فيلمه الأول “قصاص” على جائزة أماندا لأفضل فيلم نرويجي وأفضل مخرج وأفضل سيناريو لعام 2007. اختير فيلمه “أوسلو، 31 أغسطس” بقسم “نظرة ما” في مهرجان كان 2011، ورشح لجائزة سيزار لأفضل فيلم أجنبي. شارك فيلمه الأول باللغة الإنجليزية، “أعلى صوتًا من القنابل”، في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2015، كما فاز بجائزة مجلس الشمال الأوروبي السينمائية. عام 2017، حصد فيلمه “ثيلما” العديد من الجوائز المشهود لها دوليًا، وتم ترشيحه لجائزة مجلس الشمال الأوروبي السينمائية. شارك عام 2018 في إخراج الفيلم الوثائقي “مونك الآخر” مع شقيقه إميل تيرير.
في بداية فيلم «أسوأ شخص في العالم»، 127 دقيقة، نستمع إلى صوت الراوي العليم الملم بكل شيء يعرّفنا بجولي وهي في عامها الجامعي الأول.
بنبرة من التعاطف الذي يخفي بعض التهكم، يخبرنا الراوي أنها، بعد أن حصلت على درجات مرتفعة في دراستها المدرسية قررت دراسة الطب، لكن بعد أشهر من الدراسة قررت أن الطب وتشريح الجسد ليس ما ترغبه، بل ترغب في دراسة النفس البشرية، فبدّلت مجالها إلى علم النفس، ثم بعد عدة أشهر أخرى، اكتشفت أن ما تود أن تفعله هو أن تكون مصورة فوتوغرافية، واستثمرت مال دراستها في شراء معدات التصوير.
نضحك ونحن نرى يولي تبدل المجالات والقناعات، بثقة كبيرة في كل مرة، لتعود لتبدلها مجدداً بعد عدة أشهر. لكننا حين نضحك لا نضحك سخرية من يولي، بل نضحك لأنها تذكرنا بذواتنا في عمرها.
هذه المحاولات لمعرفة ما نريد من الحياة، هذه المحاولات لاكتشاف ذواتنا، هذه الرغبة في اكتشاف الطاقات الكامنة في داخلنا وتجريب كل مناحي الحياة، كلها أمور عشناها ولمسناها في أنفسنا، وربما نحاول حتى الآن تلمس طريقنا في الحياة واكتشاف العالم وذواتنا.
جولي، الشخصية الرئيسية في الفيلم ليست منفردة في محاولاتها لفهم ذاتها، وفي تنقلها من مجال إلى مجال، بل هي تعبير عن جيل بأكمله، أو ربما تعبير عن جميع من مروا بالعشرينيات من العمر، وتقلبوا فيها وتبدلت قناعاتهم، علّهم يعثرون على ذواتهم. نشاهدها وهي تبدل العشاق والأصدقاء الواحد تلو الآخر، ونكاد أن ننظر إليها بتعالي من يكبرها عمراً ويزيد عنها حكمة، لكننا في نهاية المطاف نرى فيها ذواتنا السابقة، أو ربما نحن لهذه الرغبة في التجريب التي فقدنا بعضها مع مرور الأعوام.
لا يطلق «ترير» أحكاما على جولي، بل يجعلنا نتعاطف كل التعاطف مع ترددها وجنونها وتغيراتها، في فيلم قسم إلى اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة، تظهر عناوين كل منها على الشاشة، كما لو كنا نقرأ السيرة الذاتية لجولي، يتتبع ترير بحساسية وتفهم كبيرين تلك الفتاة وحياتها وقصص حبها، نراها تعيش الحياة بحلوها ومرها، وبأيامها العابرة وأحداثها العادية.
وكما لو كنا نعبر بحراً هادئ الموج، يصحبنا ترير في رحلة فيها من الحكمة والعذوبة الكثير، كما لو كان يعفينا ويعفي جولي ذاتها من الحرج، حين تعود بذاكرتها إلى عشرينيتاها من العمر، عندما تتذكر طيشها وحيرتها وترددها وقلقها، فلولا هذه التقلبات لما وصلت للثلاثين.
لا يمكننا قط تصور جولي كأسوأ شخص في العالم، كما جاء في اسم الفيلم، بل هي شخص يوبخ ذاته على قصوره وعلى طموحاته المهشمة وعلى فرصه الضائعة. يتتبع سيناريو الفيلم، الذي كتبه ترير مع إسكيل فوغت، الذي تعاون مراراً مع ترير في كتابة سيناريو أفلامه، حياة جولي بحساسية ورهافة شديدة. وهذا النص الإنساني البليغ عن حياة هذه الفتاة في عقدها الثاني وبدايات عقدها الثالث ما كان ليصبح على هذه الدرجة من التأثير دون الأداء البديع لكل من رينت راينزفيه، وأندريس دانيلسون لي، في دور أكسل، حبيب جولي وصديقها، ذلك الحبيب الذي غادرته يوماً في بحثها عن ذاتها، وفي مسعاها لفهم الحب والعلاقات.
في «أسوأ شخص في العالم» أنجز ترير فيلماً يجمع بين الرقة والحساسية في التناول والعمق، فيلما يضحكنا تارة، ويشجينا تارة، ونعيش معه ذكريات عشرينياتنا تارة، ويجعلنا نتساءل عن معنى النضج تارة أخرى.
تتعرف جولي على أكسيل، الكاتب ومؤلف القصص المصورة، وهما في طورين مختلفين من أطوار التطور وتكوين الشخصية. أكسل في مستهل الأربعين، مستقر ماديا، ويسعى لأن تكون جولي شريكته التي ينجب منها أطفاله، هو يعلم أنها تصغره بأكثر من عشرة أعوام، وما زال يعتريها الطيش والرغبة في التغيير، اللذين عادة ما يرافقان الشباب، لكنه يحبها ويسعد برفقنها، كما تسعد هي بوجودها معه، لكن فكرة وجود شريك دائم، وأطفال فكرة بعيدة كل البعد عن جولي، التي تسعى للحرية والتجريب وعيش شبابها دون ما يكبلها.
في عطلة نهاية أسبوع مع أسرة أكسل، تقابل جولي شقيقة أكسل وزوجها وطفليها. أطفال يصيحون، وزوجان يتشاجران، والكثير من المسؤوليات والواجبات العائلية. هذا تحديداً ليس ما تريده جولي. هي لا تجد نضجاً أو سعادة في تلك الالتزامات. هي تريد لنفسها أن تحلق بعيداً وأن تركض متلهفة للقاء حبيب. ونجدنا نتساءل وما العيب في خياراتها؟، ألسنا جميعا نتوق إلى الحرية وإلى الانعتاق مما يكبلنا؟.
هذا الشعور بأنها في علاقة توشك أن تكون دائمة، وهذا التورط في مسؤولية تُلقى على عاتقها مثل مسؤولية أسرة وأطفال، يدفع جولي إلى البحث عن متنفس للحرية والحب والحياة، عن علاقة لا مسؤولية فيها ولا قيود.
ذات ليلة تلتقى بذلك الآخر الوسيم، الذي نعرف لاحقاً أن اسمه أيفيند (هيربرت نوردام) يلتقيان ويتبادلان الغزل والقبل والضحك، دون التزام ودون أن يتبادلا حتى اسميهما. هما متقاربان سناً، لا يرغبان في القيود ويريدان الاستمتاع بالحياة، دون مسؤولية أطفال، أو علاقة دائمة. في مشهد بديع، حين تقرر جولي أنها عندما تكون في صحبة أيفيند، يقف الكون بأسره يتوقف الجميع عن السير وتتوقف المدينة عن الحركة، ولا يبقى متحركاً حياً متدفقاً مقبلاً على الحياة إلا يولي وأيفيند. هما المتحرك الوحيد في حياة أصابها الركود. هذه الحيوية والحركة والعاطفة، هو ما تبحث عنه جولي، وما تعتقد أنها ستحققه مع أيفيند. ألسنا جميعا في قلوبنا التي أثقلتها الأحمال والمسؤوليات نتوق إلى تلك الحرية؟.
يثير الفيلم تساؤلنا عن الحب: ترى من نحب؟، ولم نحب؟، أنحب الشخص لذاته؟، أم لأنه يعكس رغبة من رغباتنا؟، ترى هل يدوم الحب، أم هو مؤقت ومشروط بتغير شخصياتنا عبر السنين؟.
في «أسوأ شخص في العالم» أنجز ترير فيلماً يجمع بين الرقة والحساسية في التناول والعمق، فيلماً يضحكنا تارة، ويشجينا تارة، ونعيش معه ذكريات عشرينياتنا تارة أخرى، ويجعلنا نتساءل عن معنى النضج. وما كان له أن يكون بهذا التأثير دون ترير، ودون السيناريو المحكم لترير وأكسل فوغت. وما كان لكل هذه العناصر، دون رينات راينسفيه، التي قدمت شخصية جولي بعمق وحساسية كبيرين.