«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام
يقول الروائى جوزيه سارماجو، فى روايته العمى.. «الظلمة التى يعيشها الأعمى ما هى إلا غياب الضوء، بينما العمى الحقيقى هو رؤيتنا للأشياء من خلف حجاب أسود يحجب عنا مظهرها وكينونتها الفعلية».
وهذه هى الفكرة التى أسهب سيناريو فيلم «أسوار القمر» فى التأكيد عليها، نسجها فى رواق وتأنى ووعى إعتدنا على إفتقادهم منذ زمن، محققا معادلة بدائية بصياغة حداثية، جمع فيها بين التعرض لصفات شعورية معقدة وحبكة مثيرة مشوقة، صنع فيها مأساة حقيقة قد يشوبها بعض التعثر سهوا، ولكنها فى النهاية تعد نموذجا لخلق المعاناة الإنسانية بغير إبتذال.
إنها تجربة حياتية، يمكن أن يمر بها بعض منا، وآخرون يلحق بهم الموت قبل أن يعلموا عنها، سُردت بخيوط مُلتبسة، يَلِمها الغموض، ويحفِها الفضول لتظل فى حد ذاتها نوعا غير مسبوق من المعالجات، على الرغم من تلامس خيوط حكيها، مع التصنيفات المعهودة للأفلام.
السيناريو ما له وما عليه
زينة (منى زكى) فتاة جميلة، على وشك الزواج من أحمد، الرجل المناسب لها شكلا وموضوعا، ولكنها وعلى رغم مضوائية الإطار الذى يجمعهما، ويرتفع بهما فى عيون الآخرين إلى الكمال، تشعر بمنطقة نقص فى علاقتها معه، تؤرقها لدرجة تدفعها أحيانا للتردد حيال قرار إرتباطهما.
عند هذه النقطة يتبين جمال سيناريو محمد حفظى، فعلى قدر كمال الصورة التى رسمها لنا، أتى ليجارى خيبتها على الجانب الآخر فى نفس زينة. مثل هذه التفاصيل الملتفة، من الصعب أن يتعاطى معها الجمهور بسهولة، وإلى الآن يهابها أى كاتب سيناريو، ويؤثر السلامة إن أراد منعطفا مماثلا. فيضع أسبابا بديهية قريبة، ومفهومة تأتى فى غير صالح شخصية أحمد، حتى وإن سعى السيناريو لنَصرتها فى النهاية. ليُشّرِع تردد زينة ويجعله مستساغا مقبولا..
حالة الإنطفاء حتى مع وجود الحب، هذا ما ثابر السيناريو على أن يبلغه بعناد، على الرغم من كونه عصى على التوصيف، إلا أنه وجد طريقا للتعبير عنه. لم يوفر وقته، وجهده دون مناله. وخاصة مع ظهور رشيد فى حياة زينة، لتكتمل الصورة، وتُمنطِق معناها بنفسها. هذا الشاب الذى يخلب لبها، ويمنحها ما كانت تبحث عنه دون أن تعلم هويته وكُنهه. كتابة تُذكِرنا بمهارة تامر حبيب، فى مراقبة العلاقات واصطياد نتفاتها ليجعلها مواضيع حية على أوراقه.
ويأتى النصف الثانى من الفيلم، ليبدأ مع شخصية رشيد متاهة أخرى، لها لون ومعنى مغاير، ولكنها تتفق مع الحِرص الواضح على النبش فى النفس الإنسانية، وتعرية متناقضاتها. رشيد يبدأ دوره فى إسعاد زينة، سعادة حقيقية خالصة، ولكنه ومع تفانيه فى حبها يقلب حياتهما إلى جحيم. إنها أيضا معادلة مختلة لمعنى الرضا، مفتقرة إلى التمام. ومع تبعاتها الكابوسية، تعود زينة لتُفضِل عليها علاقتها القديمة مع أحمد. تيقظ السيناريو إلى أن يحافظ على براءة ونقاء رشيد إلى النهاية. لم ينتزع منه طيبته، ويفرد له نابان ويحيله إلى مصاص دماء، حتى حينما تبدت عيوبه المرضية التى تدفعه لتصرفات هجمية يعاب عليها أى بنى آدم، وتُطَوِعه تحت حكم أخلاقى وإنسانى معتاد ومقولب. رشيد تمادى فى مرضه بحب زينة، إلى ضربها، حبسها، التسبب فى حادثة عماها. ولكننا أبدا لم نكرهه، بل حملنا السيناريو إلى التعاطف معه، وإبراز مدى إنسانيته، ليتبدى فى أقسى لحظات عنفه ضحية.
ولكن ثمة خط تراجع مر به السيناريو، حينما شدد أكثر من مرة على ندم زينة حيال إحساسها المنقوص تجاه أحمد، وإعتباره شعورا نابعا من قلة خبرتها، وإلتباس فهمها لمعنى الحب. ليقر بصحة ومعافاة شكل علاقتها مع أحمد، وكأنه المعادلة الأصح وليست الأنسب. فمن أهم مميزات صياغة العلاقتين (علاقة زينة بأحمد، وعلاقة زينة برشيد) أنهما مثلا دليلا نابضا على نسبية المشاعر، وانتفاء معايير فهمها، وتصفيتها من معنى الصح والخطأ. ما فقدته زينة مع أحمد، ستظل تفقده مرارا، ولكنه مقارنة بعلاقتها مع رشيد يمثل لها خيارا أفضل وأأمن. ولكن السيناريو لم يدع هذه الفكرة لتمرق بسلام، وأصر أن يشوهها، ويصور زينة فتاة وقعت ضحية جهلها بالحب، فنسمعها تقول جمل من عينة «كنت تافهة»، «ماكنتش فاهمة يعنى ايه حب». الحب ليس مادة للفكر، هو حالة شعورية لا صلة لها بالخبرات ورجاحة العقل. يمكن لأحدهم أن يتوهم الحب، ولكن أبدا لا يحدث العكس، أن يحيا سنوات مع شخص يفتقد معه وهج الحب، ومن ثم وبعد الفراق يكتشف عندما يقارن إحساسه بتجربة أخرى أنه كان فى تجربة حب. قد تكون زينة بالفعل أحبت أحمد، ولكنه شكل من أشكال الحب الهادىء المفتقر إلى حالة اتقاد، يعد عنصرا أساسيا من عناصر حالة الحب الحقيقية التى لا يمكن فهمها أو التعبير عنها. وهى الحالة التى وجدتها مع رشيد، ولكنها سرعان ما اُجهضت نتيجة ما عانته معه من ألم لا يُحتمل. فإن خلا رشيد من هواجسه المرضية لم تكن زينة لتقر بحبها لأحمد أبدا. فقط ظروف الشخصيتين وضعتها بين خيارين لم يصل كل منهما للكمال على طريقته.
من السمات الأساسية لهذا السيناريو، شكل السرد. والإصرار على بِدئه من منطقة حساسة، مُلهمة، تضيف فوق قيمة الحدث وروابط علاقات الشخصيات أضعاف المتعة والتورط فى المتابعة. هذا التفانى فى خلق خط إثارة مواز، محبوك بلياقة تلائم الحدث الأصلى، وتُخَدِم عليه. فتدفعنا لرؤية كل شىء ببصيرة زينة المتخبطة، فى وقت حاسم وصل فيه الصراع بين أحمد ورشيد إلى نقطة محتدمة قد تصل للقتل الفعلى. فنحتار حيرتها، ونظن بنفس الطريقة التى تضعها كإحتمالية، لنكتشف فى النهاية أنها لم تقو على التمييز بينهما، لم تستدل بأى إحساس داخلها على حقيقة هوية كل منهما. هذه الجزئية، بالرغم من كونها حدثا ماديا ملموسا، إلا أنها تمثل قيمة رمزية قد لا يقصدها السيناريو لكنها تحققت بشكل أو بآخر، بحيث جسدت إحساس زينة الفطرى بتساوى أحمد ورشيد كخيارات منقوصة للسعادة، بعيدا عن كونها عمياء، أو فاقدة قدرتها على التذكر لتُفرق بينهما. وبناء عليه بدا ارتماؤها على أحمد فى الصراعات الأخيرة نوعا من الدفاع عن غريزة القدرة على الإختيار، فهى حتى وإن ماتت مع أحمد على المركب وقتما رفضت أن تتركه، ستكون موتة آمنة، إختارتها وإرتاحت إليها، على العكس من المصير الذى سيجبرها عليه رشيد، فهى معه تفقد جزءا مهما من أمنها وحريتها.
آخر كلمتين:
ـ مشاهد النهاية بدت على عجالة أكثر من اللازم، فجأة ظهرت زينة فى حضن أحمد، دون أن نعلم كيف توصل إليها، وعلم مكانها بهذه السهولة. إضافة إلى أننا، لم نتبين ما حدث لها بخصوص استعادة ذاكرتها، فهى من دون المعايشة الحقيقية المخزنة فى ذاكرتها وليس هاتفها فقط، ستظل الفتاة قليلة الخِبرة التى لا يمكنها أن تخط رواية كما كانت تظن دوما.
ـ إنسيابية منى زكى، ملامحها الوافية، وطلتها الصادقة. عادت تارة أخرى، لتؤكد وجودها، وتزيد من إحساسنا بالوحشة إليها منذ وقت. فهى أقوى من أن تتكرر فى أداء آخر، وموهبة مثيلة. منى دائما تحسم الموقف لصالحها، وتتغلب على نقاط ضعفها التى قد توجد فى أى ممثل، وتأخذ من حضوره، وهذه هى ميزتها النادرة حقا، أنها تجبرك على التعايش معها لدرجة تُجبرنا على إغفال أى مما يمكن أن تأخذه عليها.
ـ آسر ياسين كان أفضل من عمرو سعد رغم إجتهاد الثانى، ولكن الإثنين أخفقا بشدة حينما تبادلا الأدوار.
ـ مجهود كتابة الحوار، والحفاظ فيه على جُمل سيظل معناها معلقا حتى نهاية الفيلم (أسوار القمر، نور النجوم)، بدا جديرا بالإعجاب والتحية.