يتجدد الجدل في كل عام وتنقسم الكروازيت، يضاعفه الاختلاف بين النقاد الفرنكوفيين والأنكلوسكسونيين، في تراوح بين الترحيب والتنديد بعد عرض كل الأفلام تقريبا. لكن الأغلببة هذا العام أجمعت على الاستياء من فيلمي “رودان” للفرنسي جاك دوايون، و”قتل الأيل المقدس” لليوناني يورغس لانتيموس، ويشارك كلاهما في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2017.
عام 1880 في باريس تطلب الدولة رسميا ولأول مرة من النحات أوغست رودان، بعد أن صار في الأربعين من العمر، أعمالا فنية وبينها “باب جهنم” و”القبلة” و”المفكر” التي صنعت لاحقا مجده. كان يعيش رودان مع روز، شريكة عمره، حين تعرف على كامي كلوديل التي تتحول من تلميذته الموهوبة إلى مساعدته ثم عشيقته. بعد عشر سنوات من الحب العاصف والإعجاب المتبادل، ينفصلان فيتفرغ رودان لعمله بحماسة وعزيمة. يواجه النحات الرفض الشديد من جهة، بسبب أسلوبه الذي يقطع مع التقاليد الفنية، ومن جهة أخرى يرحب العديد بجرأته في صقل الأجساد. ويخلق رودان مع منحوتة الكاتب الفرنسي “بلزاك”، والتي نبذها معاصروه، نقطة بداية النحت الحديث.
غادر العديد من الصحافيين القاعة في مهرجان كان أثناء عرض “رودان” للمخرج الفرنسي جاك دوايون، وصاح صحافي إسباني “فيلم عجوز” ! إن كان رودان قد صنع ثورة في عالم الفن، فدوايون لا يزحزح قيد أنملة الخطوط الموروثة البالية الكلاسيكية. فحتى في بحث علاقة رودان بكلوديل، التي سبق وأن تقمصتها جولييت بينوش وإيزابيل أدجاني في أفلام أخرى عالية التحدي، لم يرتق بها إلى درجة التوتر والجنون التي طبعتها. حياة رودان هامة وثرية بحد ذاتها، لكن فيلم دوايون (73 عاما) يتسم بسطحية مدوية لا تكاد تكون ولو بيداغوجية.
أبرد من المرمر، أثار الفيلم غضب الكروازيت التي شككت في شرعية تواجد الفيلم ضمن المسابقة الرسمية. فاستغرب الجمهور اختيار شريط يتناول هوس الفنان بالمادة وولهه بالجسد والعاطفة، بهذا القدر من الملاسة والإيضاحات السياقية المباشرة التي تقضي على إمكانية التأثير في المشاهد.
رغم جمالية بصرية كبيرة تكاد تكون مصقولة، على مستوى الإضاءة و”بلاستيكية” الصور، خيب فيلم دوايون رواد المهرجان الذين رأوا فيه نوعا من الزور واعتبروا أنه اختير لأن المهرجان، الذي يحتفل بعيده السبعين، يمر بفترة حنين إلى الماضي تضعف رؤيته للمستقبل.
رغم الفشل اللاذع الذي عرفه الفيلم، يبقى بالإجماع أداء فانسان لاندون الحائز على جائزة أفضل ممثل في دورة 2015 (عن فيلم “قانون العمل”) مبهرا. ويصرح لاندون الذي لعب الدور الرئيسي في الفيلم لفرانس24 أن السينما هي سياسة يقول “أن تصنع بلزاك بهذه الطريقة، في حين اعتيد أن يظهره الفنانون بريشة في اليد اليمنى ومحبرة في اليد اليسرى وجالس على أريكة عريضة المساند، هي سياسة، هي بداية النحت الحديث”. استنادا إلى هذا التصريح، نتأكد من القيمة السياسية لعمل رودان، لكن ليس لعمل دوايون…
كان فيلم “قتل الأيل المقدس” لليوناني يرغوس لانتيموس بدوره قد خيب الجمهور وقوبل بتصفير الاستهجان في نهاية العرض. عام 2015 برز “سرطان البحر” الفائز بجائزة لجنة التحكيم كأحد أغرب الأعمال التي شاهدناها. وهاهو الفيلم الجديد يعمق أيضا المذهب السريالي الجنوني الذي أرساه عبر أعماله السابقة على غرار “أنياب” و”آلبس”.
في “قتل الأيل المقدس” يسعى ستيفن وهو جراح ماهر، إلى التقرب من مراهق ويربط به علاقة صداقة غامضة. يقتحم الأخير تدريجيا وبصفة شاذة عائلة ستيفن البورجوازية وتتفكك فيها المفاهيم على مختلف المستويات لا سيما الجنسي، فزوجة ستيفن (نيكول كيدمان) مثلا تتنكر في شكل مريضة مخدرة لإغراء زوجها… لا شك أن المخرج اليوناني يبسط نظرة قصوى وقاسية على مدى انهيار إنسانيتنا. بنفس الطريقة، يدفع الفتى المراهق بستيفن إلى أبعد التحديات ويطلب منه أكبر التضحيات، فوالده قد توفي بين يدي الجراح واستغلال مشاعر الذنب لا حدود له.
يغذي خيال لانتيموس عالم المسرح التجريبي وكليبات الفيديو وإعلانات تسعينات القرن الماضي، لذلك فهو يولي نفس الأهمية للأشياء والشخصيات والديكور والصوت. للفيلم رمزية مسرح أوريبيد وبالتحديد “إيفيجينيا” فالسؤال الذي يطرحه هو “بمن تضحي إذا وجب التضحية بأحد أفراد عائلتك؟”. ففي الأسطورة اليونانية، يأمر الملك أجاممنون بقتل ابنته إيفيجينيا كأضحية للسماح لسفنه بالإبحار إلى طروادة. لكن عوض تعميق التراجيديا، بحث المخرج المشاكس خواء التركيب إلى حد إدخال القلق في صفوف الجمهور الذي غادر أغلبه قاعة العرض، وكأنه سعى لهذا الهدف للافتخار بأنه “غير مرحب به” في الكروازيت.. شرط ألا تفسد عليه لجنة التحكيم الخطة الجهنمية المترفّعة فتمنحه سعفة ذهبية .