«سينماتوغراف» ـ محمود درويش
ما أحوجنا جميعاً اليوم إلى الابتسامة والفكاهة، في سنوات عز فيها الضحك، وساد الحزن، وباتت الكآبة سمة الحياة العربية. لذا عدنا نفتش في أوراق وذكريات نجوم الضحك وأبطال الأعمال الفكاهية، التي أسعدت من شاهدها ومازالت رغم اختلاف الأجيال. عالم الكوميديا متشعب وواسع وكما شكلت مجلات الـكوميكس وأبطال القصص المصورة حافزاً أساسياً للخيال. جاءت الأعمال الكوميدية من زمن مضى لتلون حياتنا بالبهجة والفرحة والضحك بلا حدود، عبر قصص ترصد مختلف العوالم والأزمان، ومواقف ومفارقات تدمع معها العيون من فرط الضحك بمعية نجوم باتوا «أيقونات» حتى وان كانت حياتهم لا تخلو من الصدمات والأحزان، وفي مثل هذا اليوم 15 يناير 1957، تأتي ذكرى رحيل على الكسار .
أفنى الأسمر الأمي البسيط، صاحب لقب بربري مصر الوحيد، عمره من أجل الفن على مدى نصف قرن من الزمان من دون أن يجني شيئا، بل حصد مرارة القسوة والنكران. إنه الفنان القدير صاحب الابتسامة المميزة والضحكة العفوية والفن الجميل، والذي نجح في أن يصبح ندا لعملاق المسرح الفكاهي في مصر نجيب الريحاني، خصوصاً بعد أن ابتدع عام 1917 شخصية «عثمان عبد الباسط» الخادم النوبي صاحب البشرة السمراء لتنافس شخصية الريحانى «كشكش بك»، ونقلها من خشبة المسرح إلي شاشة السينما.
كان المشوار السينمائي لعلي الكسار مبكرا جدا، وربما قبل البداية الفعلية للسينما المصرية وهذا عكس ما يعتقده الكثيرين من أنه لم يقف أمام كاميرات السينما إلا في منتصف الثلاثينات، كان أول مرة يقف فيها الكسار أمام كاميرا السينما في عام 1920 عندما شارك مع أمين صدقي شريكه في فرقته المسرحية في فيلم قصير حمل اسم «الخالة الأميركانية» أخرجه الإيطالي بونفيللي وكان هذا الفيلم القصير مأخوذا عن رواية إنكليزية كانت ذائعة الصيت اسمها «العمة تشالي» وبطبيعة الحال كان الفيلم صامتا وهذا لم يكن يرضي طموح الكسار الذي يعتمد في أدائه على المسرح على الحوار واللغة المباشرة بينه وبين جمهوره.
من هنا انقطع الكسار عن السينما التي كانت في بدايتها في هذا الوقت المبكر من عشرينيات القرن الماضي ولم يبد حماسا لهذا الفن الجديد، لكن مع ازدياد الحركة السينمائية ومع دخول زملاء ورفقاء جيله فيها واحدا بعد الآخر نجيب الريحاني وفؤاد الجزايرلي وجورج أبيض، ومع إضافة شريط الصوت للفيلم السينمائي بحيث أصبح الفيلم ناطقا في السنوات الأولى من الثلاثينيات، بدأ الكسار يعيد تفكيره في السينما ويراجع حساباته تجاهها بعد أن أدرك أن السينما هي الوثيقة الوحيدة التي ستحفظ فنه للأجيال القادمة وليس المسرح الذي لن يشاهد عروضه إلا المعاصرون لها، وعاد إلى السينما في عام 1935 مع المخرج الكسندر فاركاش من خلال فيلم «بواب العمارة»، ومع النجاح الذي حققه، انطلق علي الكسار سينمائيا وتوالت أفلامه مع المخرج توغو مزراحي الذي كان قدمه بشكل كبير بالإمكانيات الكوميدية الهائلة لعلي الكسار والتي يمكن استغلالها سينمائيا وخصوصا أن مزراحي كان ميالا أكثر لتقديم الكوميديا السينمائية وبالفعل قدم هذا الثنائي معا «الكسار ومزراحي» أروع أفلام الكوميديا في السينما المصرية والتي لا يزال يقبل عليها الجمهور على مشاهدتها ويضحك عندما يشاهدوها على قنوات التلفزيون. وأول أفلام هذا الثنائي كان فيلم «غفير الدرك» عام 1936 ثم توالت أفلامهما معا مثل «سلفني 3 جنيه»، «عثمان وعلي»، «100 ألف جنيه»، «التلغراف»، «نور الدين والبحارة الثلاثة»، «علي بابا والأربعين حرامي» و«الساعة سبعة».
وقدم الكسار للسينما أفلاما أخرى مع مخرجين آخرين مثل «يوم المنى» مع ألفيزي اورفانيللي و«محطة الأنس» مع المخرج عبدالفتاح حسن، و«يوم في العالي»، و«ألف ليلة وليلة» مع المخرج حسين فوزي.
ومع نهاية الأربعينيات تراجعت مكانة الكسار السينمائية وقلت أفلامه وبدأ يقبل الأدوار الثانوية أو المساعدة في بعض الأفلام وهو الذي كان صاحب البطولة المطلقة أو الكاملة في أفلامه، ولعل أهم أسباب هذا التراجع أن المخرج توغو مزراحي الذي أخرج له معظم أفلامه المهمة والناجحة قد توقف عن السينما في عام 1946، وأيضا دخول السينما في نوعية مختلفة من أفلام الكوميديا بعد الحرب العالمية الثانية وافرزت هذه النوعية من الأفلام أفرزت نجوما جددا يقدمون الكوميديا بشكل مختلف أمثال إسماعيل ياسين وعبدالفتاح القصري ومحمود شكوكو وزينات صدقي وماري منيب وحسن فايق وغيرهم.
ويشير العديد من نقاد وباحثي السينما إلى سبب آخر مهم جدا كان له تأثير كبير في تراجع مكانة الكسار السينمائية وهو أنه لم يجدد في مشواره ومسيرته السينمائية فقد ظل ثابتا على نمط واحد في كل أفلامه وهي شخصية «عثمان عبدالباسط» الرجل النوبي البسيط التي أتى بها من المسرح إلى السينما وهي الشخصية التي أشرنا إليها سابقا، وحققت هذه الشخصية كما ذكرنا نجاحا سينمائيا كبيرا له وكانت سببا في نجوميته إلا أنه مع تكرارها ونمطيتها سئمها الجمهور. وفي بدايات الخمسينات لم يقدم الكسار الكثير بل إنه لم يستفد من الفراغ الذي تركه الريحاني بوفاته وبدأ يظهر في الأدوار السينمائية المساعدة التي أثرت بالطبع على مكانته كرائد من رواد ونجوم الكوميديا بل وفن التمثيل، وشاهده الجمهور في أدوار صغيرة مثل «آخر كدبة» مع فريد الأطرش، و«أمير الانتقام» مع أنور وجدي، و«صاحبة العمارة» مع محمد فوزي، و«قدم الخير» مع شادية وإسماعيل ياسين ومحمود المليجي ومحمد سليمان وعمر الحريري والمخرج حلمي رفله وقدم الكسار دورا صغيرا ربما لا يليق باسمه ومكانته وتاريخه وكان هذا الفيلم عام 1952 ويعد آخر أفلامه السينمائية على وجه التقريب.
وفي عام 1953 توقف تماما عن السينما وكان قبلها قد توقف عن المسرح وأغلق فرقته المسرحية وبدا الكسار كأنه دخل مرحلة النهاية فقد بدأ المخرجون يتجاهلونه ولا يرشحونه لأعمالهم سواء مسرحيا أو سينمائيا وأثر هذا كثيرا على حالته النفسية.
وضمت قائمة أهم 100 فيلم في السينما المصرية فيلم «عثمان وعلي» الذي جسد فيه دورين لرجلين متشابهين تماماً، ولكن الفارق الاجتماعي بينهما كبير جداً، الأول «عثمان عبد الباسط» العامل البسيط المرح، والثاني «علي بك» المدير الثري الجاد الأنيق. وكان الكسار قد عانى في أواخر أيامه من التجاهل والنكران والجحود، وأصابه المرض حتى لقي ربه في عام 1957، عن 70 عاماً بعد صراع مع السرطان لم يجد من ينقذه منه بعد أن عانى من نقص المال في آواخر أيامه.
ولم يكن يملك من الدنيا شيئاً يورثه لزوجته وأبنائه، ومنهم ابنه «ماجد» الذي ألف عنه كتاباً عنوانه «بربري مصر الوحيد» وهو اللقب الذي أطلقه عليه النقاد في مصر.