دراما دسمة وملتبسة، تثير أذهاننا وتفتح أعيننا للحياة
“أمي” فيلم كزافييه دولان المزعج الذي يحتفي بالأم وبروح الشباب
“سينماتوغراف” ـ جايلان صلاح
ليس جديداً على كزافييه دولان –وما أرهق كتابة اسمه- أن يجعل الأم محوراً لأفلامه. تتملكه روح الشباب وجموحهم وكثرهم للتابوهات، وتتجلى براعته في كتابته عن الطبقة العاملة والعلاقات الأسرية المتشابكة والاضطراب النفسي، مثيراً الصدق ومتناولاً مواضيع بسيطة بدرجة عالية من العمق تنبع من صغر سنه وافتقاره للنضج الكافيين في الإخراج.
في “أمي” Mommy يقدم لنا دولان ثلاث شخصيات محورية، ديان، الأم التي تثير الاستنكار في جميع الأماكن، فهي لا تطابق هيئة ولا طريقة الأم المثالية من قريب أو بعيد بأي حال. ملابس مثيرة لا تناسب سنها، ولكنة فرنسية ثقيلة وألفاظ صادمة، وحتى طريقة تعاملها مع ابنها لا تلائم الفكرة الكلاسيكية عن الأم المضحية والمتفانية. الابن، ستيف، هو مفاجأة هذا الفيلم. يقوم الممثل الكندي (كيبيكي الموطن مثل دولان) أنطوان أوليفييه بيلون بدور الابن المراهق ستيف والذي يعاني من ADHD أو اضطراب الحركة المفرطة وقصور الانتباه، وهذا المرض بأعراضه الكثيرة المزعجة للمريض وأهله هو السبب في حالة ستيف الغريبة وحبه الأوديبي الممزوج بالعنف لأمه.
في جميع المشاهد التي تجمع بين ستيف وأمه ديان، يمتزج الحب بالعنف بالألم الناتج عن تربية ابن مصاب بمثل هذا الاضطراب النفسي الخطير. الممثلة آن دورفال وأوليفييه بيلون برعا في تقديم تلك المشاهد المزعجة والتي تلقي بالمشاهد في قلب المعركة، بما في ذلك عنف ستيف ورعب أمه وغضبها، فيشعر المشاهد بعد انتهاء المشهد وكأنما خرج للتو من حادثة سيارة. الشخصية المحورية الثالثة هي كايلا، جارة ديان وستيف المدرسة التي تثأثأ، والتي تجد نفسها متورطة في عالم ديان وستيف المعقد والمتشابك، بالضبط كما يتورط المشاهد في تلك الحكاية المعقدة العصية على المشاهدة أحياناً.
أداء سوزان كليمنت لشخصية كايلا قد لا يرتقي لمستوى دورفال أو بيلون، ولكنه أداء سلس لشخصية ربما تكمن صعوبتها في تشتت انتماءها لعالم ديان وستيف والذي يمثل، بالكادر الضيق الذي اختاره المخرج للتصوير، عالم كلي مهيمن على الفيلم كله. في مشاهد ستيف وكايلا، تتقاذف كرات البينج بونج أيضاً ولكن ربما ليس بنفس القوة التي تتراشق الأم والابن بها. المستفيد من هذا كله هو المشاهد والذي لن يبعده غموض والتباس الحدوتة الأوديبية المزعجة عن رغبته في استكمالها. كما أن جرأة دولان في تناول علاقة الابن بأمه، وفي عرض الرغبات والعلاقات الجنسية بكل عمقها و”كركبتها” هي المحرك الأساسي للمشاهد في استمتاعه بفيلم “أمي”. أفلام دولان عادة ما تلعب على وتر الصراحة الصادمة، بالضبط كما هي شخصية ديان في “أمي”، وهذا ما سيجعل دولان من أهم المخرجين المقبلين، نظراً لانتظار المشاهدين ما يقدمه في شغف. تأتي براعة دولان في توجيه ممثليه مع تباين خبراتهم وقدراتهم التمثيلية، من كونه هو أيضاً كان ممثلاً، لذا فهو قادر جداً على فهم احتياجات الممثل، وهو مع كونه مخرج متمكن إلا أنه يفكر أحياناً بعقلية ممثليه ويوجههم طبقاً لذلك بسلاسة ودون مغالاة.
في مشهد يمثل غاية السلام النفسي لستيف، حيث يركب لوح التزلج الخاص به، وينطلق في الشارع الواسع بينما نغمات الهيب هوب تهدر من سماعات أذنيه، يبدو دولان وكأنما هو نسخة مروضة من ستيف، وبتحليقه في عالم الإخراج مسدداً هدف سينمائي وراء الآخر، نجد أنفسنا رغم أنفنا متورطين معه ومع شخصيته المهزومة والمحطمة والتي تتأرجح ما بين الرغبة والانكسار وقسوة العيش، مقدمة لنا دراما دسمة وملتبسة، تثير أذهاننا وتفتح أعيننا للحياة.