أم غايب.. الواقع والأسطورة في فيلم ليس عن الأحكام المسبقة
سينماتوغراف ـ أبو ظبي: أحمد شوقي
قبل أن نحضر لمهرجان أبو ظبي السينمائي كان الفيلم التسجيلي المصري “أم غايب” واحدا من الأفلام التي أترقب مشاهدتها عند عرضها في المهرجان، لسبب واضح يتعلق بالرغبة في معرفة ما الذي ستفعله المخرجة نادين صليب في فيلمها الطويل الأول، بعد ما أثبتته في أفلامها القصيرة من كونها مخرجة تغرد خارج سرب السائد والمحبط في صناعة الأفلام القصيرة في مصر.
فصناعة الأفلام القصيرة في مصر وبعد مرورها بفترة انطلاق وازدهار في الأعوام العشرة الأولى من الألفية، كانت تمثل في وقتها تيارا حقيقا، خرج من رحمه عدد من صناع الأفلام الذين صاروا مخرجين مؤثرين حاليا. نفس الصناعة تحولت في الأعوام الأخيرة لصورة باهتة، تبلغ نسبة الجاد والجيد فيها رقما مخيفا لا يتجاوز الواحد بالمائة، وهي قناعة رسخت في ذهني بعد عامين من مشاهدة ما يقرب من المائتي فيلم مصري قصير سنويا للاختيار من بينها لمهرجان الإسماعيلية، كنا نعاني فيها كي نجد فيلمين من بين العدد الهائل الذي يتقدم للمهرجان.
لا أعمم بالطبع، فهناك أعمال ممتازة يقدمها مخرجون مثل أحمد غنيمي وعماد ماهر ودينا عبد السلام وغيرهم، لكنها من جهة أعمال فردية تماما لا يمكن وصفها بالانتماء لأي تيار ـ وهو أمر غير ملزم بالطبع ـ ومن جهة ثانية هي تمثل قطرة في بحر عكر، يفترض أن تكون سمته هي التجديد والتجريب واستيعاب القواعد من أجل تحطيمها، أما واقعه فهو شبه الانعدام لفكرة التراكم المعرفي، بشكل يجعلك تشعر في كثير من الأفلام القصيرة المنتجة حديثا أن المخرج يحاول إعادة اكتشاف السينما والكاميرا، ليس بالمعنى الإيجابي للكلمة ولكن بمعنى البدائية وإغفال التجارب السابقة.
من بين كل هؤلاء ظهرت نادين صليب في أفلامها القصيرة كصاحبة سينما حقيقة ومتطورة ومستوعبة لكل ما قبلها، وعندما شاهدت أعمالا قصيرة تم تنفيذها بكاميرا 16 ملليمتر في إحدى الورش، وجدت معظم تجارب المشاركين تتعامل مع خام السينما باعتباره وسيط جديد تماما بخلاف واقع الأمور، أما نادين (التي لا أعرفها شخصيا ولا أعلم إن كان لها خبرة سابقة بالخام أم لا) فقد صنعت فيلما حقيقيا يستحق المشاهدة. وقتها لم يشغلني كثيرا إن كانت المخرجة تصور بالخام للمرة الأولى أم لا، ففي النهاية حتى لو كنت تستخدم الكاميرا لأول مرة، فهناك تراث مكون من آلاف الأفلام يفترض أن يكون من يقدم على صناعة فيلم مستوعبا لبعضها، وما قدمته المخرجة الشابة وقتها كان نموذجا لهذا الاستيعاب.
ما سبق مرّ عليه ما يقرب من الثلاثة أعوام، قضتها نادين صليب في تقديم أفلام قصيرة أخرى، مع تحضير وتصوير فيلمها التسجيلي الأول “أم غايب”، الذي شاهدناه مؤخرا في إطار مسابقة الأفلام الوثائقية بمهرجان أبو ظبي السينمائي الثامن، ليأتي الفيلم مستحقا للانتظار الطويل، حاملا قدر من الأصالة يجب أن نقف أمامها بالرصد والتحليل.
الخروج من فخ النمطية
الحقيقة أن ملخص الفيلم المنشور أصابني ببعض القلق، فالفيلم كما يقول الملخص عن امرأة ظلت 12 عاما تحاول أن تحمل دون جدوى، لتكتشف عالم من “الأحكام المسبقة”، وهو ملخص صالح لإنتاج فيلم استشراقي من الطراز المعتاد، حول المجتمع الذكوري وظلم المرأة المختلط بالفقر، باختصار لكل ما يمكن أن تكرهه من أفلام أصبح قدر النفعية في صناعتها أكبر بكثير مما تحدثه من تأثير. لكن عند مشاهدة فيلم نادين تأكدنا من أن الملخص مجرد مادة خادعة، لا تحتوي من الفيلم سوى على معلومة محاولات حنان المتكررة للحمل، أما جوهر الفيلم نفسه، فيرتبط بأمور أعقد وأهم بكثير من الأحكام المسبقة وغيرها.
هذا فيلم عن الحياة في مقابل الموت، ليس باعتبارهما ضدّين في مواجهة، وإنما كونهما وجهين لعملة واحدة، العلاقة التي أدركها المصري القديم في بحثه عن الخلود، وتحولت فيما بعد إلى قول شائع هو “السيرة أطول من العمر”، والسيرة في الحس الشعبي ترتبط بالسلسال، والإنسان العظيم تخلده أعماله وسيرته، أما الإنسان البسيط فيخلده إنجاز أكبر: استكماله للحياة، وإنجابه لمن يعمروا الأرض من بعده.
حنان محرومة من هذا الإنجاز، وأزمتها ليست في الأحكام المسبقة إطلاقا، بل يمكن القول بكثير من الأريحية أن محيطها يكاد لا يمتلك ربع الأحكام المسبقة التي يمكن تواجدها في حالة كحالتها ليس في قلب الصعيد فقط بل في العاصمة ذاتها. ويكفي أن زوجها عربي، المصري العظيم المساند لزوجته الذي يرفض مجرد طرح فكرة الزواج عليها كي ينجب، هو أبعد ما يكون عن أي تصور مسبق، كذلك الجارات والقريبات والصديقات، اللاتي يحطنها بقدر كبير من الحب ويحلمون معها بالولد، هم أيضا خارج المتوقع في عالم تقوم بعض الأمهات فيه حرفيا بمنع أمثال حنان من مشاهدة أطفالهن خوفا من أن تحسدهم (يحدث في المدينة مجددا).
صراع حنان إذن ليس مع مجتمعها المحيط ولا مع الأحكام المسبقة إطلاقا، بل هو صراع داخلي بالأساس، يمزقها فيه خوفها من أن تكون كالأرض البور التي تتحول مع الزمن إلى خراب، خوفها من ألا تجد من يزور قبرها هو من يدفعها دفعا لزيارة القبور باستمرار، فهو من جهة طقس تمارس به دورها في الحياة: استكمال ما بدأ قبل خلقها، ومن جهة تعبير عن ذعرها من أن تكون هي سببا في توقف هذا السلسال المستمر منذ آدم وحواء، حتى ولو بشكل رمزي.
حنان التي خطت الحيّة والقبر، ووضعت أحجبة سحرية داخل جسدها، نشاهدها تمارس طقس “الكحروتة” بأن تنام في التراب وتدور حول نفسها عشرات المرات، في فعل مؤلم جسديا ونفسيا، قبل أن نكتشف أنها قد “تكحرتت” خمس مرات! لا عجب فمن زاوية “الأحكام المسبقة” هو فعل مهين فقط لا يمكن أن تمارسه مرتين إلا لو كانت مجبرة، أما من زاوية الأسطورة الشعبية التي تتجسد في حياة حنان، فهو فعل طبيعي ومنطقي، هي ببساطة تقدم جسدها قربانا للأرض، لعل هذه الأرض ترضى عنها وتطرح فيها بذرة الخلود.
مخرجة ذات حضور
المخرجة في فيلم “أم غايب” ذات حضور واضح، حضور مادي بسماع صوتها على مدار الفيلم تحاور الشخصيات وتلقي بعض التعليقات العابرة، وحضور فني باختياراتها البصرية الدالة على استيعاب لما يمثله الحمل لدي شخصيتها الرئيسية من قيمة أزلية، أبعد بكثير من مجرد إرضاء العالم المحيط، ولعل سبب هذا أن نادين نفسها أنثى، تبحث داخلها هي الأخرى عن البقاء بمعناه الأسطوري، لذلك تركت على مدار الفيلم الكثير من الجمل التي تقولها حنان تتمنى لها وللمصورة الزواج والإنجاب، وتؤكد على ضرورة حضورها لزفافيهما.
الاستيعاب يمتد للصورة التي تكشف علاقة الشخصيات بالطبيعة، أول لنقل أكثر دقة بالأرض، هذه شخصيات أقدامها راسخة في هذا المكان ولا ترغب إلا في استكمال هذا الرسوخ، وكل لقطات الفيلم تقريبا تحمل هذا الارتباط البصري بالأرض، بدءا من مشهد البداية/ النهاية لامرأة أسطورية، تعيش على الأرض وتعمرها بعرقها (وبالتأكيد برحمها)، مرورا بمشاهد القبور والبناء والعمل في الأرض. ولا عجب أن في أكثر لحظات حنان هشاشة نفسية وضعفا، نجد نفسنا ننتقل فورا إلى لقطات النهر المهتزة، والنهر أيضا خالد وعمره من عمر الزمن، لكن خلوده يرتبط بمن حوله، وشخصيات الفيلم لا تجد نفسها إلا على أرض صلبة يرتبط وجودهم بها، أما الماء فيحمل هاجس الفناء منذ عصر أيزيس وأوزوريس، وصولا إلى حنان التي تتحدث عنه لمرة وحيدة ضاعت فيها حياة امرأة حاولت إنقاذها من الغرق، فقدمت حياتها فداء لحنان، التي تفشل في المقابل في استكمال ولو حياتها فقط.
نهاية الفيلم التي لن نقوم بحرقها تستكمل هذه القيمة الأسطورية بصورة أو بأخرى، ولكن حتى لو لم تكن الظروف قد خدمت نادين صليب بحدوث هذه النهاية، فقد امتلكت المخرجة الشابة حكاية ذات أصالة وعمق وتأثير، تعاملت معها بوعي وموهبة مشهودين، لتقدم واحدا من أعذب الأفلام التسجيلية المصرية المعاصرة.