ـ محمد جابر
ربما يكون المخرج داميان شازيل موهبة هوليوود الأكثر سطوعًا ونجاحًا في الأعوام الخمسة الأخيرة، إذْ نادرًا ما ينال صانع أفلام عن عمله الفعلي الأول صيتًا إيجابيًا كبيرًا كذاك الذي حصل عليه بفضل “ويبلاش” (2014)، الفائز بثلاث جوائز “أوسكار” في فئات أفضل ممثل في دور مساعد لجي. كاي. سيمّونز، وأفضل ميكساج صوت للثلاثي كريغ مان وبنْ ويلكينس وتوماس كورلي، وأفضل مونتاج لتوم كروس. هذا كلّه قبل أن يزداد الاحتفال الدولي به مع “لا لا لاند” (2016)، المُرشّح لـ14 جائزة ” أوسكار، فاز بخمس منها، أبرزها في فئتي أفضل إخراج وأفضل ممثلة لإيما ستون. بهذا، أصبح شازيل أصغر فائز بتلك الجائزة في هذه الفئة، إذْ كان في الـ32 من عمره.
لهذا كلّه، كان طبيعيًا أن يكون فيلمه الأخير “أول رجل” (First Man) الأكثر انتظارًا في عام 2018، قياسًا إلى العدد الكبير من محبي السينما، فهو يتناول فصولاً من سيرة حياة نِلْ أرمسترونغ، “أول رجل” يخطو على سطح القمر.
منذ البداية، كان واضحًا أن الفيلم مختلف، في نوعه وشكله، عن الأفلام السابقة لداميان شازيل (1985)، التي كانت دائمًا على صلة بالموسيقى، ويُسائل جوهرُها قدرةَ العلاقات العاطفية على النجاح، في ظلّ الهوس العملي لأبطالها. ظاهريًا، يبدو “أول رجل” بعيدًا عن هذا كلّه. فهو فيلم تاريخي علمي، يتناول سيرة إحدى أشهر شخصيات القرن الـ20، ويحافظ على المحاور الأساسية لرحلة “الصعود إلى القمر” بين عامي 1961 و1969.
سينمائيًا وتقنيًا، يتحرّك الفيلم بطموحٍ وجماليات مختلفة تمامًا عن الفيلمين السابقين. لكن، مِن وراء تلك الصورة الشكلية، وبحسب المعالجة الدرامية التي اختارها شازيل لفيلمه، المقتربة كثيرًا من الحياة الشخصية لأرمسترونغ، وهي لا تكتفي بصورته الأيقونية كرائد فضاء، أو بالتفاصيل العلمية لمهمته، فإنه يسهل اكتشاف ما يربطه بالأبطال السابقين للمخرج. مرّة أخرى، هناك هوس عملي يصطدم بالحياة العائلية والشخصية، وقصّة نجاح تُخلِّف ندوبًا كثيرة.
ما خذل داميان شازيل هذه المرة، وجعل الفيلم أقلّ بريقًا من فيلميه السابقين، يكمن في السيناريو، الذي لم يكتبه بنفسه للمرّة الأولى في سيرته المهنيّة. فرغم أن المعالجة ذات بعد شخصي لحكاية رجل مثل نِلْ أرمسترونغ، وهي تمنح الفيلم احتمالات عاطفية مفتوحة، إلا أن السيناريو (نيكول برلمان وجوش سينغر، عن كتاب “أول رجل على سطح القمر” لجيمس أر. هانسن، وهو كتاب سيرة حياتية) لم يتحوّل إلى حكاية يُمكن للمُشاهد أن يتفاعل معها ويتأثر بها.
فمن ناحية أولى، تخلو القصّة الحقيقية من أي دراما أو تحوّلات مثيرة. تصاعد الأمور يسير بشكل منطقي تمامًا، والأسوأ أن المشاهد يعرف نهاية ما سيحدث سلفًا، وأن البطل سيحقِّق هدفه ويصل إلى القمر بملحمية منتظرة. مشاهد الفضاء المعتَمِدة على إثارة الأعصاب تخلو من كلّ جاذبية حقيقية، كتلك الموجودة في أفلامٍ شبيهة من “أول رجل”، كما في “أبولو 13” (1995) لرون هاورد مثلاً.
ومن ناحية ثانية، فإن اختيار السيناريو لسرد الحكاية عزّز من الشعور بتلك الفجوة، فهو يسير بشكل تعليمي وتقليدي تمامًا، كأنه فيلم وثائقي لا درامي، ويقفز أعوامًا عديدة في كلّ مرة لاستعراض حدثٍ كبير بالنسبة إلى رحلة الفضاء، من دون رابط درامي بين الأحداث، أو تغيّرات مؤثّرة في حياة الأبطال. صحيح أنه يركّز على الحياة الشخصية لنِلْ أرمسترونغ، وعلى التناقض بين طموحه العملي وحياته العائلية، إلاّ أن مقدار الحركة والدراما في هذا الجزء محدود للغاية، ويعوِّل ـ بدرجة مُبالغ بها ـ على حادثة موت ابنة أرمسترونغ في بداية الفيلم كمحرِّك عاطفي لكل ما حدث بعد ذلك، من دون أن يكون هذا الربط صلبًا أو قابلاً للتصديق، خصوصًا مع الضعف الشديد في شخصية جانيت شيرون، الزوجة الأولى لرائد الفضاء (كلير فوي)، التي لا تُقارن بالشخصيات النسائية الأخرى في أفلام شازيل.
نتيجة هذا كلّه؟ “أول رجل” فيلم من دون دراما، له حكاية معروفة نهايتها، تتناول شخصية ناجحة وأيقونية، لكنها غير مثيرة للاهتمام.
رغم ذلك، فإنّ الفيلم ليس سيئًا، بل مقبولاً في أسوأ الأحوال، بفضل تفاصيل لافتة للانتباه في موهبة داميان شازيل، كإدراته لراين غوزلينغ مجدّدًا في أداء هادئ وجذّاب، رغم تفاصيل الشخصية التي لا تساعده، أو الخيارات البصرية للعمل (لقطات مقرّبة، أو الـ”تراكينغ شوتس” المتتبعة للأبطال)، التي تحاول إبراز الجانب الشخصي والعاطفي في الحكاية، وطبعًا الكاميرا التي طوّرها فريق العمل مع “ناسا” نفسها، لمنح الفيلم صورة واقعية أقرب ما تكون إلى ما حدث فعليًا. لكن هذه التفاصيل الجيدة لم تنقذ شازيل، مع سيناريو فارغ إلى هذا الحدّ، فالفيلم مُحبِطٌ، وأقلّ أهمية بكثير من فيلميه السابقين.