ينافس في المسابقة الدولية لـ”القاهرة السينمائي”
“إلي الأبد”.. سمفونية عشق صامتة
“سينماتوغراف” ـ عمار محمود
(إلى الأبد ـ For Ever) أحد الأفلام التي تشارك وتنافس في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي من خلال عرضها العالمي الأول وهو للمخرجة اليونانية مارجريتا مانتا.
وفي البدء يمكن القول، إن اتساق محتوى الموضوع مع شكل تصويره، ضرورة إبداعية للعمل السينمائي، لأنها تكشف قيمة المخرج وأثره بالنسبة لمنتجه الإبداعي، كما أنها تتيح عملية القراءة، التي لا تحدث سوى بإتحاد الكلمات مثلا لتكوين موضوع. والاتساق هنا هو أولى خطوات الوحدة الموضوعية والتي تؤدي إلي الجمال، واتساق حركات الكاميرا والألوان و أداء الممثلين ومواقع التصوير، وكلها من مكونات العمل السينمائي، الذي يجعلنا ندرك كخطوة أولى، وحدة عناصره، وعدم احساسنا بشتات أحدها أو نشوزه عن سيمفونية الفيلم الصامته، والذي إذا حدث، سوف يؤدي لعطل في التواصل وعدم إدراك للقيم الجمالية التي يريد العمل تأكيدها.
ومن المؤكد بأن الجمال نسبي في تذوقه، لكن من الشائع بين الناس، أن القيمة الأكبر المنتشرة في الشيء الجميل، هي التناسق، ويأتي من الأشياء المتشابهة أو المختلفة، كما يحدث في ألوان الحياة، والتناسق بين الألوان الباردة والحارة أو تناسق الحارة مع الحارة.
ولكن الاستخدام الجمالي لتناسق الألوان الحارة مع الباردة، نصفه بالتباين، وهو أحد الأساليب الجمالية التي استخدمها الفيلم، باستخدامه للتباين بين قيمتين رئيسيتين، لكي يوضح ويكثف وجود أحدهما، كما نقول بأن التضاد يبرز المعنى ويوضحه، وهو أساس الحل الجمالي في هذا الفيلم، والذي يحكي عن مدينة أصيبت بمرض العزلة، وكل سكانها لا يتواصلون مع ذويهم، فالشوارع في البداية خالية، والناس في محطات المواصلات لا يتحدثون مع بعضهم أبدا، والصوت الأعلى في الأماكن المزدحمة، هو صوت المؤثرات الصوتية أو السكون أو المترو، واللون الرئيسي لتلك اللقطات مائل إلى الزرقة بشكل كبير.
ويأتي من صميم العزلة، رجلاً اسمه كوستا (Kostas Filippogiou) يحاول أن يحقق القيمة الإنسانية للتواصل، وهنا تظهر مسألة استخدام التباين لإبراز المعنى وتوضيحه، فالعالم الذي يوجد فيه الرجل، خالي تماما من القيمة التي يبحث عنها، وتلك العاطفة، هي ما يعبر عنها اللون الأحمر، الغائب تماما عن الفيلم.
والتباين بين البارد في المدينة والحار في قلب كوستا، هو ما يوضح القيمة الجمالية لكليهما. ويحاول ذلك الرجل البحث عن أسمى درجات التواصل، ومن خلال الحب، يجد امرأة اسمها آنا (Anna Mascha) وتعمل في شباك تذاكر للسفر، يحبها لتكرار تواجدها أمامه كثيرا فأصبحت مألوفة، ويحاول التفاعل مع ألفتها تلك، بأن يراقبها أكثر سواء خلال ركوبها القطار أو الذهاب لمراقبتها في عملها، لكي يحقق المسألة الأولى للتواصل، وهو الألفة.
وكوستا هنا يبدأ بالحب ويتخطى الألفة، لكنه يرجع للألفة لكي يصل إلى الحب، لكونه الوسيلة الوحيدة لتحقيق طرفي معادلة الحب بين شخصين.
يحاول أن يتواصل مع تلك المرأة، والتي هي جزء من محيطها، تمارس أفعال محيطها البارد والساكن تماما، فنراها تعتاد في أيامها المتوالية أن تأكل وتشرب وتشاهد التلفاز، وكأن الهم الرئيسي للحياة هو أن نحيا فقط.
ويتسق موضوع الفيلم مع طريقة تصويره، وتلك هي القيمة الأجمل بالنسبة للإخراج، حيث يبدأ الفيلم بلقطة وجهة نظر لمترو الأنفاق وهو يعبر الخطوط المتشابكة للسكك الحديدية، ثم يسير إلى نفق مظلم، بكادر ثابت، ويعرض خلاء المدينة من البشر، أي من يعمروها أصلاً، ثم يأتي صميم الفيلم عن غياب التواصل، وهو حكم بالموت على من يمارسوه كما قال المشهد الأول في الفيلم.
كل مشاهد الفيلم المتتاليه تصور بكادر ثابت، وهو الحركة الأكمل للكاميرا، لكي تعبر عن موت الإيقاع والذي يأتي من الحركة والتي من ضمن مقوماتها التواصل.
ولكي يكتمل الإيقاع البطيء، والإيحاء بالضيق الناتج عن فقدان التواصل، تأتي اللقطات طويلة، والحركة في اللقطة الواحدة قليلة جدا أو معدومة تماما.
والاختيار اللوني، بالنسبة للون الأزرق، الغالب على كل ألوان الفيلم وغياب اللون الأحمر، هو استخدام جمالي لبرودة المشاعر، والتي فقدت مع فقدان الاتصال الإنساني بين الناس.
ما يحركنا حقيقة في ذلك العالم، هو الحب، لأنه الدافع الأكبر، والذي منه نشعر بقيمتنا، لأننا حققنا تواجدنا عندما أدركنا أثره.
هكذا يقول الفيلم، في شكل شاعري، لأنه استخدم التعبير غير المباشر، باستخدام الصورة فقط، وغياب الحوار الخارجي أي الكلمات، والاكتفاء بالداخلي أي المعاني التي تنشأ من تسلسل المشاهد.
الرجل الذي يحب، يعمل سائق للمترو، وذلك المترو هو الذي دفعه نحو قدره لرؤية تلك السيدة التي أحبها، وهذا التسلسل هو ما صنع القيمة الجمالية لحقيقة ما يحركنا في هذا العالم. ثم بعد ذلك، ومن خلال تتابع المشاهد، يظهر الأداء الجمالي للأبطال المتسق مع موضوع الفيلم وطريقة تصويره، (بطئ الحركة، ومكثف جدا)، لأنه أيضا سار على خط واحد، فـ كوستا مثلا كان دائم الإبتسام، ومرة وحيدة تجهم وجهه، حينها شعرت آنا كثيرا بأزمته، وهي التي كانت ملامحها الأكثر تحركا لأنها القيمة الجمالية التي يقدمها العمل على أساس أنها المحرك الرئيسي للحياة.
هذا الفيلم كاملا، لا تجد به لقطة زائدة أو ناقصه، ومدته الزمنية استوعبت ذلك جيدا، ولم يخفق إيقاعه أبدا ولم يخفي الفيلم مفاتيح قراءته أيضا، ولم يتجاهل القيمة الجمالية لمستويات المعنى التي تأتي بحل لغز قراءة الفيلم واستيعاب سرديته البصرية. حتى أنه بعد انتهاء عناوين البداية، يتم إهداء الفيلم إلى المخرج اليوناني ثيودوروس أنجيلوبولوس، وحتى هذا الإهداء، لم يكن جزافا، ف أنجيلوبولوس قد أخرج فيلما اسمه (الخلود ويوم – Eternity and A day) وكان موضوعه الرئيسي عن مشكلة التواصل أيضا.
وينتهي فيلم “إلي الأبد” بلوحه سرياليه، ومن خلال كادر واحد ثابت يلتقي الشتيتين، (بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا)، لكن الزاوية الواسعة واللقطة الثابتة تجمع كوستا وآنا متقابلين على رصيفين مختلفين في محطه المترو، ليتلاشى ما حولهما ويميل إلي البياض التدريجي ويجتمعان في طريق واحد بعد أن يملأ اللون الأبيض الشاشة كاملة، في دعوه إلي الأمل والتفاؤل بما هو مقبل خلال مشوار تواصلهما معا.