«سينماتوغراف» ـ بشار إبراهيم
بغداد عذراء الشرق دائماً، على رغم كل ما مرَّ من غُزاة التاريخ، وطُغاته، على جدائلها. ما تعرَّت أمام أيٍّ منهم، وإن سقطت تحت سنابكهم، ولا هي أدنت أقراطها من أطراف أظافرهم المتوحشة، وإن نهشوا من لحمها… لبغداد المنسابة رقراقة كماء دجلة، سرُّها… لم ينل منها فتك هولاكو، فمضى مذموماً، وبقيت هي غرَّة على جبين الأيام، تسدل سعف نخلها العالي، أخضر، متناسق التفاصيل… رُطباً على رُطب..
وعلى ما لبغداد من حضور في الذاكرة والوجدان، عزَّزته القراءات الباهية، أكثر من التفلُّت في شوارعها، التي بقيت طويلاً عصية على إيقاع الأقدام المُشتاقة، كما القلوب والعيون، والأنفاس اللاهثة، وهي تشرق هواءها بشوق لا يدانيه شوق «سندباد»، آن تطول رحلته في غمار العباب الهائج للبحار التي ما كانت تعرف منتهىً لها، أو مبتدى، إلا في شريان دجلة والفرات، وهما يتلويان بين محلات بغداد التي صاغتها المخيلات وقصائد الشعراء، منذ أن سحرت عينان رائعتان علي بن الجهم، «بين الرصافة والجسر»، إلى حين ذوَّب الشاعر محمد مهدي الجواهري تحياته «لائذاً بين الماء والطين»، في «أم الخير» التي ما فارقها إلا «على الكراهة بين الحين والحين»!.
كأنما بغداد مرصودة للفراق. للفجيعة والحزن. لنكد الأيام وسطوتها، دون أن تفقد أبّهتها… فيضجُّ الدم شوقاً واشتهاء، كما لاب بدر شاكر السياب يوم كان «غريباً على الخليج»… وكم نبدو غرباء اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على وجع السياب، بل قل على وجعنا، إذ ما عرفنا من بغداد إلا صورة المتلوّين ألماً على وجع البعاد، وخمرة المنفى تعصف بآخر سعفات الرصانة التي يتوارون طيَّ ظلالها، فيطوون المسافات بعسل الكلام المُذاب، ويوقدون الأمل كلما خبا أو ابتعد.
يورّطنا العراقيون بنبض الضوء في العيون الحزينة، في مآسيهم، ونحن الذين من حزن أتينا… فقدسنا (قل فلسطيننا) التي ضيعناها ببؤسنا، كدنا نكرّرها في بيروت، بعبثنا الدموي… وها هي بغداد تحضر، بين حين وحين، منفلتة من عقال انتساب الشعراء الذين أحببناهم إليها… تأتي إلينا، وفي جعبتها نخل ونهر وحنين… هو ذاته الحنين الذي يجعلنا نغزل مدننا قصائد مبللة بالحزن واللوعة والفراق، ونخاف دائماً من الانغماس في طقس الابتعاد، والتواري وراء نأينا المستديم.
عندما نتحدث عن بغداد، تتحوَّل المدينة إلى أيقونة أكثر وأعلى قامة من مجرد مكان للسكن… ليست فقط الشوارع والأحياء والمحلات المعروفة الأسماء والتفاصيل… ليس الجغرافية المجردة… عندها تصبح ملامحها تفاصيل في الحضور والوجود والهوية… تنهض متألقة عالية القامة، بارعة الأنفاس… وبغداد «مدينة السلام»، مذ أن أرسى المنصور أول مفردة من حضورها… إلى أدنى سعفة ترفض النار، وتقاوم الاحتراق… وهي مدينة التذكّر والحنين… وإلا فما الذي يعصف بناسها الذين قذفتهم المنافي ميلاً بعد ميل، منذ أن حمل جلجامش عصا ترحاله باحثاً عن سرّ شاغله، إلى آخر تائه في شوارع العالم باحثاً عن مخدة يرمي عليها رأسه المتعبة ليغفو، ريثما يعيد التاريخ ترتيب أوراقه، وتعيد الجغرافيا تأثيث الحضور، في بغداد.
والمخرج العراقي سمير في فيلمه «انس بغداد»، يريد ملامسة ذاك السرّ الكامن وراء هذا الحنين كلّه لبغداد، ووراء الانتماء الصارخ لها، رغم كل التحولات التي تحدث، والجنسيات التي سيمرّ أبناؤها عليها… بغداد التي لا تفارق أبناءها مهما نأوا عنها، هي أعمق من ذاكرة، وأبعد من انتماء… إنها شيء يخصّهم. كأنما من يشرب من ماء دجلة يُصاب بلوثة بغداد، فيُوشم قلبه بنبض بغدادي، له دائماً في الروح وجيب.
«انس بغداد»… كأنما المخرج سمير يريد التحدي بهذا العنوان الصارخ، فمن تراه يستطيع أن ينسى بغداد؟.
بغداديون هم… وإن طوَّحت بهم الأيام إلى الضفة الأخرى… ملء المخيلة ذاكرة تنبض بأيام بغداد التي انطوت على أحلام في بلد عزيز كريم حرّ مستقل، تسوده العدالة والمساواة والإخاء… فبغداد، كما العراق، على تنوّع وغنىً وثراء على المستويات الإثنية القومية والدينية المذهبية والطائفية، كافة… من سومر وأكاد، إلى بابل ونينوى وآشور، ومن جلجامش وحمورابي ونبوخذ نصر، إلى سعد بن أبي وقاص والإمام علي والحسين، القادسية وكربلاء والنجف… مسلمون ومسيحيون ويهود… سنة وشيعة وايزيدون وصابئة… عرب وأكراد وتركمان وأشوريون…
«انس بغداد» فيلم يريد أن يقصّ حكاية بغداد التي ما غادرت حتى باللهجة والنبرة الخاصة ألسنة من مضوا عنها منذ قرابة نصف قرن، من خلال أكثر النماذج البغدادية خصوصية واستثنائية… إنها إعادة سرد بصري لتاريخ مدينة، بل بلد، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الثقافي والإبداعي، خلال قرن مضى، ولكنه ما زال حاضراً بأحداثه، أو بآثاره، أو بالتبعات المترتبة على كل ما جرى… وها نحن ندفع الثمن..