«كان» ـ هدى ابراهيم
بقي أربعة أفلام في عروض المسابقة الرسمية للدورة التاسعة والستين من مهرجان كان السينمائي الدولي ولا زال فيلم «طوني آردمان» الألماني للمخرجة مارن آدي، يتصدر سلم الاعجاب وعدد السعف المرصودة له بينما شهدت الساعات الاخيرة عرض فيلمين مرتقبين ضمن المسابقة، قادمين من كندا ومن رومانيا.
فيلم الكندي الشاب، كزافييه ديلان «إنها فقط نهاية العالم ـ It’s Only the End of the World» الذي قدم مساء أمس وصباح اليوم ضمن المسابقة في عروض ثلاثة، حقق نسبة الاقبال الأقوى لحضوره من قبل الصحفيين لكن حماسة ما قبل العرض لم تكن بمثلها بعده، والتصفيق كان خجولا جدا بعد العرض الصحفي الاول.
كزافييه دولان، هذا الشاب العامل منذ سن الرابعة في المجال السينمائي والمتحمس دائما للعمل، ينجزه بوتيرة سريعة، يعتبر من الوجوه التي ساهمت في صنع مجد المهرجان رغم حداثة سنه. جاء الى الكروازيت، عام 2008 مع شريطه الأول «قتلت امي» بعد ان اكتشفته تظاهرة «اسبوعي المخرجين»، وحقق فيلمه الطويل الأول الذي انجزه وهو في العشرين نجاحا وشهرة، كشفت عن موهبة جديدة.
اما قصر مهرجان كان فعرض له شريطه «حب وهمي» عام 2010 ثم شريطه «لورانس في كل الاحوال» عام 2012 وكلاهما في تظاهرة «نظرة ما»، ولاقى العملان ترحيبا كبيرا من النقد قبل ان تعرض له المسابقة الرسمية فيلم «مومي» عام 2014 ، هذا الفيلم الذي كسب جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجاء في العام 2015 كعضو في لجنة تحكيم المهرجان.
«إنها فقط نهاية العالم» هو أصلا عنوان مسرحية للفرنسي جان- لوك لاغارس، وهو كاتب راحل اهداه دولان العمل، مسرحية اكتشفها المخرج باكرا، عند تصوير فيلمه الأول، لكن لزمه الكثير لينفذ امكاناتها السينمائية ويعود للتفكير بها لصنع فيلمه السادس. يقول: «فهمت اخيرا، المشاعر، الكلمات، الصمت، الانفعالات، التي تنطوي عليها المسرحية وتحديدا تكوين الشخصية غير المكتملة وهي ما يمسك عند جان-لوك لاغارس».
في هذا الفيلم الذي يعتبره فيلم «النضوج» وفيلمه «الأفضل» كما صرح في المؤتمر الصحفي، يحاول المخرج من خلال النفاذ الى قلب العائلة (عدد هام من الافلام في كان هذا العام، يعالج الدراما العائلية)، وصف نهاية العالم والحروب القادمة التي تنطلق من هذا المكان بالتحديد، من خلية العائلة، كونها عاجزة عن الحوار والتفاهم.
الفيلم تدور احداثه كلها في قلب المنزل العائلي الريفي، وفي السيارة التي تقود الى المدينة. ويبدو الكلام عن احداث في الفيلم غير مصيب تماما، بل هي مجموعة حالات وجو خانق ومحقون، يحاول المخرج تجسيده في تحد وشكل سينمائي غير بديهي وصعب.
انه فيلم قائم على العبارة، على الكلمة، على الراهن والذكريات. لكن العبارة، كما الشخصيات تظهر ناقصة غير مكتملة، بينما يلح الكل على ضرورة اكمال الحديث والرواية، في الوقت الذي يقاطعون فيه بعضهم بعضا، وباستمرار. من هذا التعارض بين امكانية البوح واستحالته يولد الفيلم من البداية للنهاية. يولد ايضا من استحالة التواصل داخل الخلية العائلية المتنافرة.
تظل العبارة عاجزة عن قول الاساسي المفجع، وتظل العائلة غير فاهمة لسر غياب الابن وسر عودته المفاجئة، فيذهب الفيلم انطلاقا من هنا، لاختبار احتماليات الصمت. يأتي الصمت مدويا ومشحونا بشتى العواطف والانفعالات، ليظهر كم ان العلاقات الأسرية معقدة، بينما هي اساسا محل للحب والعطف والسند، وكم ان الحوار المستحيل في الوسط الحميمي يجعل العالم الخارجي مستحيلا.
في هذه الدراما الحميمية، يصور دولان عزلة الانسان ووحدته في الوسط العائلي حيث تظل العواطف مجبولة بمشاعر الغيرة والغربة والشجار الدائم والشجن. تقطيع العبارة واجتزاء الحكاية تقنية ينبني عليها الفيلم، لا احد يريد الاستماع لقصص مكررة الا الابن العائد، الساكت على استفزازاتهم.
ويسيطر نوع من الهستيريا الجماعية على الشخصيات ابتداء من الأم التي تبدي عناية فائقة بماكياجها وثيابها الفاقعة وصولا الى الاخ انطوان، الذي لا يكف يقاطع الجميع ويشتم. وسط هذه الهستيريا يبدو لويس، الابن الضال العائد، المثقف المثلي، المتزن الوحيد في العائلة، والقادر على الاحتفاظ بهدوئه، رغم الاستفزازات المتكررة..
ويؤدي غاسبار اولييل دور لويس، وسط نخبة من الممثلين الفرنسيين اختارهم المخرج للفيلم: ماريون كوتيار وناتالي باي وانسان كاسيل وليا سيدو.
احدى تقنيات تصوير الفيلم اعتمدت على اللقطات القريبة بهدف التركيز على الانفعالات، لكن الشخصيات، كانت لتكون أسلم في صورتها، وأصدق في انفعالاتها، لو اشتغل المخرج مع شخصياته على مسرحة أقل للعبارة، وتبطين أكبر للانفعال، الذي يبدو زائدا دون حاجة، تماما كما الصوت المرتفع تعبيرا عن الغضب والألم.
لقد بدا الممثلون خارج السينما وهم يحاولون اداء أدوار مسرحية بصوت عال غالبا، تغلب عليه الموسيقى أو يتوارى في الضجيج اليومي المقصود.
واستعان المخرج كثيرا بالموسيقى، والاصوات التي كانت تعلو فوق اصوات الشخصيات، مع التنويه بأن واضع موسيقى الفيلم هو اللبناني- الفرنسي غابرييل يارد.
انها هذه الخلافات العائلية الصغيرة التي تصنع نهاية العالم وفق ما يوحي به المخرج، لكن الفيلم، كان يحتاج من مخرجه عناية اكبر خاصة وانه منذ سن العشرين ينتج فيلما كل عام، كتابة واخراجا ومونتاجا وتمثيلا احيانا. مقاربة دولان ظلت عالقة في مكان ما، بين السينما والمسرح، فضلا عن التوقع كان اعلى من النتيجة، وهذا ما لا يصب في مصلحة العمل.
«إنها فقط نهاية العالم»، يمثل من دون شك، ختام مرحلة في سينما كزافييه دولان، لكن الفيلم في يقيني عالق في الخطوة المعلنة نحو مرحلة جديدة من سينما هذا المخرج الموهوب جدا لكن المستعجل جدا: «احاول اصلاح اخطائي السابقة في السينما، لكني ومن دون شك، ارتكب اخطاء جديدة وانا افعل»، هذا ما صرح به المخرج في احدى مقابلاته خلال المهرجان، وهذا ما هو حاصل فعلا مع شريطه الجديد، الذي لم يوازي الحماس له، ما قبل عرضه، حماس ما بعد العرض.
والتجربة من شأنها ربما ان تدفع هذا المخرج الشاب الماضي بسرعة صاروخ في السينما للتأني قليلا قبل الفيلم القادم بعد النضج، وعلى الدرب الفني الطويل المتمثل بامتلاك لغة بصرية خاصة ومقنعة.