«سينماتوغراف»: أحمد شوقي ـ برلين
في ليلة الاحتفال بعيد الثورة البلشفية، وخلال تواجده في المكسيك، يحتفل المخرج الأسطوري سيرجي إيزنشتاين بفقدان عذرية مؤخرته مع مُساعده، ليرشق الأخير علم الاتحاد السوفيتي الأحمر في موضع انتصاره، مقدما أغرب وأجرأ نهاية فيلم شهدها مهرجان برلين الخامس والستين.
الفيلم هو «إيزنشتاين في جوانخواتو ـ Eisenstein in Guanajuato»، جديد البريطاني المخضرم بيتر جرينواي، لكن من إنتاج هولندي مكسيكي فنلندي بلجيكي مشترك، في مفارقة تشبه أحداثه التي تروي رحلة أسطورة السينما الروسية ومؤسس فن المونتاج السينمائي سيرجي إيزنشتاين إلى المكسيك عام 1931، من أجل تصوير فيلم بعنوان «كي فيفا مكسيكو» لم يخرج أبدا للنور.
سبب عدم تنفيذ الفيلم في معالجة جرينواي هو أن إيزنشتاين لم يهتم كثيرا بصناعة الفيلم، قدر اهتمامه بالانبهار بالمكسيك، وبالتعايش مع هواجسه الجنسية وميله غير المُجرّب للرجال، وعلى رأسهم مساعده المكسيكي، الذي يبدي إعجابه به من اللحظة الأولى، لكنه يكتمها بينه وبين نفسه، محدثا عضوه الذكري ـ الذي يظهر على الشاشة لربع زمن الفيلم تقريبا ـ مخبرا إياه أن يلتزم الصمت، لأن هدف وجوده هو أن تتحول حيرته ـ أي العضو ـ إلى أفكار في عقل المخرج ينقلها للشاشة!
جنون في كل شيء
العبارة السابقة خفيفة الظل، ذكية وحاذقة تكاد تمهد مبكرا جدا لفكرة الفيلم الأساسية: علاقة الهواجس الجنسية بالعبقرية الإبداعية، وكيف يمكن للصراع الجنسي أن يكون محفزا للإبداع. علاقة اختار جرينواي أن يقدم أكثر أشكالها تطرفا في فيلمه الجنوني. هذا عمل مجنون في كل شيء، في جرأته المذهلة التي جعلت بعض المحافظين يغادرون السينما غضبا ـ حتى في برلين ـ إن لم يكن بسبب المحتوى الجنسي فبسبب إهانة رمز كإيزنشتاين. عمل مجنون في رسمه للشخصيات ومواقع التصوير والديكورات، مجنون في طريقة تنفيذه التي اختار جرينواي أن يمارس فيها كل نزقه ومراهقته التي لم يعشها قديما، لكنها مراهقة لا تفتقد للإحكام والوعي بكل اختيار على حدة.
إليك نماذج للألاعيب المستخدمة في الفيلم: صورة تتحول من الأبيض والأسود للألوان أو العكس، صورة تقسم رأسيا لثلاثة أجزاء يتكرر في كل منها جملة رد الفعل بشكل متتال، كاميرا تعبر حائط الغرفة لتدخل نفس الغرفة مجددا بعد مرور وقت من الحوار لمرات عديدة، صور حقيقة لشخصيات تظهر على جوانب الشاشة بمجرد ذكر اسم الشخصية في الحوار، كاميرا تدور على شاريوه بشكل دائري حول ممثلين يتحدثون لدقيقتين أو أكثر بلا أي قطع مونتاجي. هذه مجرد نماذج وليست حصرا.. باختصار، جرينواي أخذ الجنون لأبعد مدى في كل عناصر الفيلم الذي يصعب أن يسقط من الذاكرة.
عبقري يكتشف العالم ونفسه
نعود لقصة إيزنشتاين كما يرويها الفيلم، الرجل الذي وصل المكسيك قادما من دولة متزمتة سياسيا وأخلاقيا، تعد المثلية الجنسية فيها جريمة كفيلة بإلقاء صاحبها في معتقل سيبيريا المخيف، فما بالك إذا ما كان المتهم هو شخص بحجم نبي السينما؟ فانبهار إيزنشتاين بالحياة في المكسيك ليس فقط نابعا من تجربة دولة جديدة ذات ثقافة مختلفة وفرص أكثر للحرية (ليس أكثر بكثير في ظل الوجود الهزلي لثلاثة حراس يراقبونه بشكل مستمر)، ولكنه نابع بالأساس من تجربة اكتشاف العالم عبر اكتشاف الذات.
إيزنشتاين وصل المكسيك وهو في عمر الثالثة والثلاثين، سن يؤكد أنها لحظة مناسبة ليعرف الإنسان أنه لم يعد شابا ويمكن أن يكتشف في نفسه مالا يعرفه عنها، وهو واقع صحيح إلى حد كبير، غير أن إيزنشتاين كان يعرف يقينا حقيقه ميوله الجنسية، هو فقط لم يمتلك الجرأة (داخليا قبل سماح ظروف المجتمع) لأن يترك لها العنان، حتى اكسبته التجربة المكسيكية أخيرا النضج الكاف لصناعة أهم فيلم في حياته، أو للدقة لصناعة النسخة الأصلية من فيلم عن حياته نفسها.
قد ترى أن محتوى المقال صادم، لكن صدقني أن ما فيه لا يتجاوز كسر عشري مما يحمله الفيلم نفسه من جرأة صادمة. فإذا كنت من المحافظين الكلاسيكيين الذين يرون فيلما كهذا يدعو للانحلال، أو كنت من المحافظين المعتدّلين الذين يرفضون تصوير مخرج كبير بهذه الصورة، فلا تحاول أن تشاهد الفيلم لأن صدمتك ستكون كبيرة، مهما حاولت إعداد نفسك لمقابلتها
شاهد التريللر الخاص بفيلم « Eisenstein in Guanajuato»: