كان ـ «سينماتوغراف»: مها عبد العظيم
يحمل المجري لازلو نماس إلى مهرجان كان فيلمه الأول «ابن ساول ـ Son Of Saul» لينافس أهم مخرجي العالم على السعفة الذهبية، وقد لاقى المخرج صعوبات كبيرة في تجميع المال فبلغت تكاليف الفيلم 1.5 مليون يورو، وهو مبلغ ضعيف جدا مقارنة مثلا مع ميزانيات قد تصل إلى 150 مليون يورو كما هو الحال بالنسبة إلى فيلم هوليوود «ماد ماكس».
وبهذه الإمكانيات المحدودة قدم لازلو نماس فيلما «كبيرا». فمن، بعد الوثائقي-الأسطورة «شوها» (1985) لكلود لنزمان، أو حتى «الحياة جميلة» (1997) لروبرتو بنيني، يجرأ على اقتراح نظرة «جديدة» على تلك الحقبة القاتمة من التاريخ ؟، وهذا كان التحدي الذي واجهه ببراعة لازلو نماس عبر يومين في جحيم محرقة نازية بعيني الأسير «ساول أوسلاندر» الذي يرغم على إتلاف جثث اليهود من أبناء دينه بعد أن يتم تسميمهم بالغاز، ويخال لساول أن إحدى الجثث هي لابنه فيصاب بهوس القيام بمهمة مستحيلة: سرقة الجثة من غرفة التشريح حيث قرر النازيون إجراء تجارب عليها، والبحث عن رجل دين يهودي «حاخام» لدفنها.
يبسط الفيلم عبر كاميرا «ذاتية» محمولة نظرة بلا رحمة عن معسكرات الموت، وأكد لازلو نماس أنه سعى إلى تقديم عمل «مختلف بصريا» عن أعمال سابقيه، فصور الفيلم على شريط من 35 مللي حتى يمنح المتفرج «تجربة حسية أعمق».
وأشار لازلو نماس إلى التناقض الذي يميز أفلام «الهولوكوست» المشحونة في رأيه بالأفكار المسبقة والتي تركز على الدراما على حساب قسوة التصفيات الجسدية التي تجري في صمت. وقال لازلو نماس بالمؤتمر الصحفي في مهرجان كان «كبرت مع حفرة، مع الغياب ومع من تم ترحيلهم من أجدادي، ثم اكتشفت شهادات الناس الذين عملوا في هذا الجحيم».
كان فيلم نماس قاسيا لا تنازل فيه أمام حقيقة الإبادة، فيدخلنا في النار وفي الخوف وأكوام ملابس المفقودين وفي الذل وفي حشرجات الموت وفي عفن الجثث وصراخ المعذبين. ففي حين يفكر «كوماندو الكابوهات» في الانتفاض يذعن ساول للموت ويترك الحياة وتخطيطات رفاقه وكل رمق أمل في الهروب أو التحرر، ويصب كل همه في جثة ابنه فيحملها ويسرقها ويخبؤها.. ويبحث عن «حاخام» يقرأ عليها الصلاة ومكان ليدفنها فيها بكرامة. ربما نرى في بعض المشاهد بعض التلميحات التلمودية على غرار شق ساول لنهر وجثة ابنه على عاتقه وكأنه موسى ينشق عنه الماء، لكن ساول وشك أن يغرق. فغياب الله أمام هذه المأساة من المواضيع التي يجازف بها المخرج، والرابان الذي وجده ساول كان مزيفا فلا يعرف الصلاة.
وفي الفيلم أيضا إشارة إلى فشل الكتابة في الخروج بالإنسان من تلك الظلمة فنفهم أن إحدى الشخصيات تدون شهادات عن المخيم وتخفيها، وتبادر إحدى الشخصيات الأخرى في تصوير الإبادة بآلة صغيرة لا نعرف مصيرها بعد أن يصل النازيون ويرمي بها صاحبها في مجرى ماء. فالمجاز هنا في الحد الأدنى من المعاني، والعدسة الوحيدة التي تبقى هي نظرة المخرج الذي يرى ما لا يتحمل البشر رؤيته فيصبغونه بالعاطفة والتكتم. هي عين الغريب أبدا، فـ«أوسلاندر» بالألمانية تعني «الغريب»، ويتكلم الأسرى المجرية والألمانية والبولندية ولغة الإيديش فيما يشبه «برج بابل» يجمع فيه كلام القاتل والمقتول.
وتقمص غيزا روريغ دور البطولة بدقة، وهو في الحياة كاتب من أصل مجري يعيش في نيويورك وكانت بطولته في «ابن ساول» من تجاربه الأولى في التمثيل. وأكد روريغ أن أفلام لانزمان ألهمته أيضا وساعدته على «الذهاب بعيدا» في هذه التجربة. وإذا كان المخرج يؤكد أن المجر التي أحيت العام الماضي الذكرى السبعين للترحيل الكثيف لمواطنيها في 1944 والذين ذهب 600 ألف منهم ضحية المحارق النازية، إلا أن بلاده لم تفق فعلا من هذه الصدمة، فكأنه يهدي هؤلاء فيلمه كفنا أخيرا ويقيم للذكرى صلاة في محاولة لتكريم الموتى وإعادة بعض الاعتبار لما تبقى من الإنسانية.
قال لازلو نماس إن السينما السوفييتية التي تناولت هذه المسألة أثرت فيه على غرار أفلام إلام كليموف، لكن ربما أن النظرة الجديدة التي يقدمها ليست قائمة فقط على صياغة تجربة بصرية-حسية فريدة، بل في تسليطه الضوء على ما تتميز به إبادة اليهود عن الإبادات الأخرى وما يجعلها في قلب مأساتنا الحديثة هي استماتة النازيين لا في قتل الأشخاص بل وحتى في قتل الجسد الميت.
لذا يجعلنا عمل لازلو نماس نركز الفهم على ما سماه الكاتب الفرنسي الناجي من مخيمات الموت، روبير أنتيلم، بالـ «متبقي»، أي ما تبقى من الإنسانية. هذا ردنا على من حيره معنى محاولة رجل إغاثة جثة في فيلم لازلو نماس.
ساول هو عبارة عن «أنتيغونا» التي تتحدى الملك وترفض قراره بعدم دفن أخيها لأنه بحسب الملك لا يستحق أن يعامل بكرامة ويدفن لأنه يمثل الشر. فالفن يدعو إلى ضرورة الكشف عن المجرمين أعداء الإنسان والحض على التصدي للكراهية.