كان ـ بقلم: هدى ابراهيم
لا يمكن لأي ناقد عربي أو مهتم بالسينما العربية في مهرجان كان هذا العام الا ان يكون فخورا ومبتهجا بحضور فيلم مصري في افتتاح تظاهرة «نظرة ما» ولأول مرة في تاريخ هذه التظاهرة الخاصة التي تمتاز بنظرات خاصة وثاقبة لمخرجين معظمهم من الشباب.
لا يمكن الا أن نكون سعداء بالاحتفاء الصحفي الاجنبي الذي يحظى به الفيلم الذي يعتبر جيدا بمقاييس عدة، أولها هذا البحث عن الشكل الخاص بالفيلم والذي سبق لنقاد السينما ومتابعيه ان شاهدو أمثلة عليه كما في فيلم «ليبانون» الاسرائيلي الذي فاز قبل سنوات بجائزة اسد البندقية الذهبي والذي صور كليا من داخل دبابة الميركاڤا الاسرائيلية التي توصف بالقلعة.
ابدى محمد دياب من خلال عملية التصوير المحكومة بواقع المكان المؤلف من ثمانية أمتار، قدرة كبيرة على خوض هذا التحدي بنجاح سواء من حيث زوايا الكاميرا ونقلاتها أو من حيث تتابع الاحداث وتناسلها من بعضها على مدى أربع وعشرين ساعة هي الزمن الذي يستغرقه الزمن الواقعي للفيلم.
اثبت المخرج وفريقه قدرة على الابتكار وعلى ايجاد الحلول وخاضوا التحدي بجدارة، كذلك في مضمون الفيلم ورسالته التي لا يمكن لاحد الا التضامن معها في زمن العنف واالنقسامات التي تسود المنطقة باكملها.
لكن بعيدا عن هذا التحدي الذي تفرضه تقنية التصوير في ثماني امتار مربعة وما يفرضه ذلك من تحد وبحث على المخرج وعن المشاهد العملاقة للتظاهرات التي قام الفيلم باعادة انتاجها وتصويرها يأتي القصور من عدم القدرة على اعادة صوغ الواقع بطريقة سحرية مؤثرة، أو بشكل يمس المشاهد في صلب احساسه، عن طريق الاداء التمثيلي وهنا الحلقة الاضعف في الفيلم.
المشكلة في فيلم اشتباك ان كنا نتفق مع المخرج في ضرورة عدم اطلاق الاحكام من موقعه كمخرج وفي الفيلم، كونه يحاول تمرير رسالة تدين العنف، لكنه يبقى غامضا في احيان كثيرة، وان جهد ليظهر الجوانب الانسانية لدى كل الاطراف.
الممثلون هم عادة، الجسد الذي يلبس روح الفيلم ويصبغه بنكهته الخاصة وحضوره، لكن الضعف في «اشتباك» جاء من هذا الموقع، حيث بدا ممثلون بمستوى نيللي كريم وهاني عادل، بعيدون عن الشخصيات الحقيقية ومشاعرها كما يمكن ان نعثر عليها في الواقع وكما يمكن لمخرج ان يمسنا عبر تفاصيلها الخاصة ومواقفها وعباراتها.
وعلى سبيل المثال فان شخصية الصحفي التي اداها هاني عادل بدت جامدة للغاية، بعيدة عن ان تمس المشاهد باي صورة من الصور، هذه هي القدرة المفتقدة في الفيلم، والتي اهمل المخرج العناية بها رغم التدريبات المتكررة على الادوار ومن يدري، ربما يكون هذا ما افقد العمل نوعا من تلقائية ادائه، رغم خضوع الممثلين طوعا لشروط التصوير الصعبة في تلك الزنزانة المتنقلة.
اما شخصية الممرضة التي ادتها نيللي كريم، فبدت ايضا بعيدة عن واقعها، أو غارقة الى درجة لا تحتملها السينما في هذا الواقع، ما افقد الدور اهميته. وفي العموم فان الشخصيات جميعا لم تذهب الى بعد داخلي في احتمالها وبقيت على السطح غارقة في سخونة الحدث، عدا لحظات بسيطة في الفيلم.
كما غاب عن الفيلم امكانية التدرج في الاحساسات التي يمكن ان يعبر عنها الممثل أو الشخصيات، حيث لم يكن الكلام هادئا الا في مرات نادرة وحفل العمل بمقاطع كاملة من الصراخ الذي لا يتوقف وكان المصريين ما عادوا قادرين على الكلام مع بعضهم بشكل طبيعي خارج هذا الكم الهائل من الصوت الصارخ.
يفقد الفيلم كثيرا من مقوماته نتيجة افتقاده العناية بهذا الجانب، خاصة لكون السينما فنا قائما على الاحساس الذي ينفذ الى قلب المشاهد كعطر الوردة. كأن القصص كلها تلك، مرت بعيدا عن المشاهد، لم يبك احد في القاعة، كما بكى كثيرون في شريط كين لوتش الذي يعتبر ملكا في اعادة صياغة الواقع وهي فشلت عن ان تصنع منها حقيقة سينمائية قادرة على غزو احساس المشاهد، وبدل ان تفيد تلك الشخصيات من الواقع لتصبح اكثر واقعية، بدت انها ابتعدت عن الواقع.
قد يكون للمخرج اعذاره، لجهة ضيق الوقت وضرورات التصوير، التي دفعته ليصرف وقتا اكبر على حبكة الفيلم واعداد المهمة وفقا لطبيعة التصوير غير السهلة، لكن السينما، ايضا، فن قائم على احلال التوازن بين العناصر المكونة لها وحيث الممثل حجر اساس في البناء السينمائي.
مع ذلك، فان الشريط الثاني لمحمد دياب يظل رسالة واضحة ضد العنف ايا كانت الجهة التي تمارسه، وهو اليوم مع تزايد وتيرة الاعتقالات التي تطال الصحفيين والموسيقيين والتي تمارسها السلطات في مصر يبدو عملا ضروريا لمن يريد ان يسمع قبل فوات الاوان ان العنف ليس حلا لاحد وان الوطن للجميع مهما كانت الانقسامات.
خطاب قد لا يعجب الكثيرين في مصر، حيث فاض الكيل، لكنه خطاب مقنع من الجانب الانساني خصوصا لمن هم بعيدون عن مصر وعن المنطقة المشتعلة بحروبنا الصغيرة.