أطول حوار مع ملك الرعب هيتشكوك

خاص ـ  سينماتوغراف

حوار طويل أجراه السينمائي (فرانسوا تروفو) مع مخرج الرعب المعروف (هيتشكوك) حيث وجه له 500 سؤال على مدى أربع سنوات ونشرها في عام 1967. وهي تتناول تجربة هيتشكوك من كل جوانبها في خمسين فيلما.

وقد اعتاد الأمريكيون أن ينظروا إلى أعمال هيتشكوك من زوايا سطحية كمادة للتسلية، ويسمونه (هتيش)، بينما رواد الموجة الفرنسية السينمائية الجديدة يسمونه المسيو هيتشكوك، ويعتبرونه معلما فذا ورائدا عبقريا. وهم الذين اكتشفوه واحتفلوا به وأصدروا عنه الدراسات المميزة والكتب المهمة

حوار هيتشكوك نشر في كتاب ضخم يقع في 331 صفحة من القطع الكبير وترجمه للعربية عبد الله عويشق وحسن عودة , وصدر عن دار المدى للثقافة والنشر.

يقول تروفو (الذي أجرى الحوار مع هيتشكوك) أن الفكرة السلبية لمثقفي أمريكا تجاه هيتشكوك ولغته بأن أفلامه بلا فحوى، كانت تثير في نفسي الحماس للاقتراب من هذا المخرج الكبير الذي لا يضاهيه بعبقريته سوى سلفادور دالي. وأظن انه كان ضحية لمثقفي أمريكا الذين كانوا يكتبون نقدهم على نحو ساخر وهزلي تجاه هيتشكوك. لكن عندما شاهدت أفلامه وجدت أن هناك تفكيرا عميقا ومغزى كبيرا لديه, ربما يختلف عن الكثير من أبناء جيله في أمريكا وخارجها. لذا قررت أن أخوض تجربة معمقة معه من خلال حوار سينمائي طويل يتابع جميع أفلامه. وقد جرى الحوار في عام 1962 ونشر في عام 1967, أي أمضيت أربع سنوات في حواري معه.

حينما ننظر بانتباه إلى أعمال هيتشكوك منذ أفلامه الصامتة في انجلترا حتى أفلامه الملونة في هوليود نتبين فيها عددا من الأسئلة. لابد لكل سينمائي أن يطرحها على نفسه، وليس اقلها (كيف تعبر عن نفسك بطريقة بصرية – مرئية – خالصة )؟

البداية

في 13 اغسطس (آب) 1962 وصلنا إلى هوليود(يقول تروفو) أنا وصديقتي هيلين سكوت. وفي كل صباح كان هيتشكوك يمر علينا في فندق بيفرلي هيلز، ويصحبنا إلى مكتبه في ستديو يوينفرسال. وكنا نزود بميكروفون صغير مثبت فوق ربطة العنق. كما أن مهندسا للصوت كان فى الغرفة المجاورة يسجل حدثينا. ونبدأ الحديث يوميا من الساعة التاسعة صباحا الى الىسادسة مساء. وحتى في أثناء تناول الطعام كنا نتحدث!

هيتشكوك هو الرجل الذي صور الخوف (الرعب) في أفلامه أفضل من أي مخرج أخر في العالم هو نفسه فزع هياب. نجاحه يعود إلى هذا الملمح في شخصيته! ولان هناك منتجا فنيا وممثلين وفريق عمل فنيا كبيرا كان يطمح هيتشكوك لان يجعل جميع النجوم تتمنى أن تعمل تحت إمرته وقيادته. كذلك سعى إلى إغواء الجمهور وتخويفه ودفعه إلى أن يخرج من نفسه كل الانفعالات الطفولية القوية، انطلاقا من إثارة الترقب والتشويق لدى المشاهد. وبدأ الحوار:ـ

** تروفو يسال… حدثنا عن خطواتك الاولى مع السينما؟

– هيتشكوك: قرأت في صحيفة أن شركة فاموس بليير باشرت في فتح فرع لها في لندن وكانت تريد إنتاج فيلم مقتبس عن رواية ما. فقرأت تلك الرواية ورسمت عدة رسوم يمكن أن توضح العناوين الفرعية للحوار (في زمن السينما الصامتة) وعندما ذهبت إلى الشركة (شغلوني) فورا. ثم صرت رئيسا لقسم العناوين. وقد قلبت برسوماتي كل تصورات الشركة رأسا على عقب! وبذلك نجحنا نجاحا باهرا وحصدت الشركة أرباحا طائلة. ونجاحي قادني أيضا للعمل مع المنتج ميشيل بالكون كمساعد مخرج وقدمت لهم نصا مسرحيا (امرأة لا مرآة) فدهشوا كثيرا.

**.. أي أفلامك هو الأول؟

-.. فيلم القاطن هو الفيلم الهيتشكوكي الحقيقي الأول. وقد واجهتني مشكلة في كيفية تحويل نجم محبوب من الناس إلى قاتل ومنتقم! وكان البطل هو ايفور نوفيللر. وهو أول فيلم قدمت فيه أفكاري الخاصة في شكل بصري.

**.. في فيلم “المأخوذ” تتركز فكرتك حول تنفيذ فيلم هذياني؟

-.. نعم.. فالرواية مأخوذة عن رواية (الدكتور ادوارد) المليو درامية وفيها قصة يرويها احد المجانين لمجنون أخر.. كان الجميع في الفيلم مجانين. وكانت فكرتي عقلانية لأني أردت أن أقدم فيلما بموجب التحليل النفسي, لذلك أرسلت إلى سلفادور دالي ليرسم لنا رسومات توضيحية تساعد على إبراز الشكل البصري. وقد نجح دالي في تقديم ما أريد ورسم لنا أشياء غريبة بحيث يصعب تقديمها من خلال التمثيل كمشهد تمثال يفرقع نملا يتسرب من الشقوق ويدب فوق التمثال. ثم تظهر في الفيلم انجريد برغمان مغطاة بالنمل! كنت أتمنى أن أصور خارج الاستديو لإعطاء مصداقية أكثر لكن المنتج رفض فصورت داخل الاستديو ومع ذلك نجحنا!

** وكيف اخترت فيلم “غريبان في قطار” ؟

-.. اخترت الرواية ووفرت لها مادة جيدة لعملي وتعاونت فيها مع ريمون تشاندلر كاتبها, ولان العمل لم يكن جيدا لجأت إلى سزينزي أو رمونده ونجحنا في الاهتمام بقواعد العمل السينمائي. وهي قواعد الإثارة والترقب. واذكر أن سلزنيك قال ذات مرة إني الوحيد الذي يثق بي لإخراج أفلامه. ويوم عملت معه تذمر مني وقال إن أفلامي أحجية لا تفهم وأشبه بكلمات متقاطعة.. والسبب في ذلك هو أني أصور أفلامي في أجزاء صغيرة. ولم يكن جمعها سهلا بدوني. ولا يمكن تركيب الفيلم إلا حسب ما ركبته في راسي! مثلا تصوير الإقدام باتجاه وعكسه بطريقة الـ (ترافيلنغ) أي لقطة مصاحبة.. متابعة. ثم اللقطات الخاصة بالقضبان الحديدية. فهي تتلاقى معا وتتباعد. وذلك رمزي بعض الشيء، شأن الأسهم الدالة على الاتجاه في بداية فيلم أنا اعترف.

** في فيلم النافذة الخلفية يظهر بطله جيمس سيتوارت يتلصص على الآخرين وهذا غير جائز؟

– الآنسة لوجون الناقدة قالت كلاما اكبر انه فيلم شنيع ؟! وما كان عليها أن تقول ذلك.. صحيح انه كان يسترق النظر ومتلصص. لكن السنا جميعا مسترقي نظر ؟! واراهن أن كل تسعة من عشرة إذا رأوا على الجانب الأخر امرأة تغير ملابسها فأنهم لن يستطيعوا إمساك أنفسهم عن النظر! يمكن أن يغلقوا النوافذ أو يشيحوا بنظرهم بعيدا لان الأمر لا يعنيهم . لكنهم لن يفعلوا ذلك. بل سيظلوا ينظرون وهي طبيعة البشر لاسيما لدى الرجال؟ فكيف لا تريد بطلا مقعدا السبيل الوحيد أمامه هو النظرمن النافذة وان ينظر إلى كل ما يشاهده عبرها! ولولا تلك النظرات لما كان للفيلم أي معنى أو أهمية.

** تروفو.. وعن نظرته للجنس على الشاشة سألته؟

أن الإمساك بالخناق هو تحديدا الفيلم الذي اهتم الصحفيون فيه بالصورة التي في ذهنك عن البطلة السينمائية. انك صرحت في مرات عدة إن جريس كيلي أثارت اهتمامك لان الجنس عندها غير مباشر؟

– هيتشكوك: عندما أعالج أمور الجنس على الشاشة.. لا أنسى أبدا أن الترقب بأنفاس مكتومة هو الذي يحكم هنا أيضا كل شيء. إذا كان الجنس مفرطا في الجهر وحصلنا بجلاء. فلن يعود ثمة تلهف مكتوم النفس. فما الذي سيملي علي بعد اختيار ممثلات شقراوات ومغاليات في مظهرهن المصقول لحد الشطط؟ إننا نبحث عن نساء من الدنيا.. سيدات حقيقيات سيصبحن في غرفة النوم بدعارة غانية. المسكينة مارلين موترو كان وجهها يعلن عن الجنس في كل نقطة منه, مثل بريجيت باردو وذلك لايبدي رهفا نبيها! في حين ان الجنس يجب آلا يعلن سافرا كما عند النساء الانجليزيات والسويديات!

وعلق هيتشكوك حول سؤال تروفو عن النورس الذي يجتاز الشاشة ليصيب الاطفائي في رأسه؟ فقال:ـ

– كان نورسا حيا أطلق من مصطبة عالية جدا خارج إطار لقطة التصوير, ومدربا للذهاب من مكان إلى آخر مارا بالضبط من فوق رأس الرجل الاطفائي. أما الرجل فهو بهلوان حركات خطرة. وقد بالغ في رد فعله كي يقنعنا بان النورس ضربه!

وبخصوص الأصوات المصاحبة لمشهد الطيور وهي تهاجم المنزل في فيلم الطيور قال هيتشكوك:ـ

-عند تصويري هذا المشهد من الخارج، مع الشخصيات التي جمدها الرعب داخل المنزل ـ تمثلت الصعوبة في الحصول على ردود أفعال من الممثلين من لا شيء. اذ لم يكن لدينا بعد لا أصوات خفق الأجنحة ولا صرخات النوارس . لذا استحضرت عندئذ طبلا إلى جلسة التصوير، وميكرفون ومكبر صوت. وفي كل مرة كانت الشخصيات تؤدي فيها مشهد الجزع المطبق على الصدر. كان القرع على الطبل يساعد الممثلين في إبداء رد الفعل. بعد ذلك طلبت من (برنار هرمان) أن يتولى مراجعة الصوت والإشراف عليه للفيلم كاملا، حيث استطاع أن يضبط جوقة الموسيقيين وألا تتم المرافقة بحيث تصدر وكأنها اصوات وليس موسيقى. وهو ما حدث في الفيلم كاملا.. أي هناك أصوات وليس موسيقى!.

** وحول سؤال تروفو هل تعتبر نفسك فنانا كاثوليكيا؟ يقول هيتشكوك:ـ

– أنا انتسب إلى أسرة كاثوليكية وكذلك زوجتي. ونشأت في بيئة دينية صارمة. وفي بعض أفلامي صورت، وربما هي مصادفة، في كنيسة كاثوليكية بسبب وجود مواصفات احتاجها مثل جرس قديم وبرج وهي بالأصل من أفكار المؤلف قبل أن تكون من إرادتي.

أخيرا يقول تروفو عن سينما هيتشكوك:

في بداية الستينيات كان هيتشكوك يشعر بأسف لافتقاده للنجوم، إذ كان بحاجة أكثر من غيره من المخرجين إلى اؤلئك النجوم، بسبب انه لا يمارس سينما شخصيات إنما سينما مواقف. كان شديد النفور من المشاهد التي لا نفع منها، تلك التي يمكن بسهولة اقتطاعها عند تركيب الفيلم. انه لم يكن رجل الاستطرادات ولا التفاصيل الصغيرة التي تعطي (النكهة الواقعية). ولا نرى أبدا في أفلامه ممثلا يشرع بحركة لا فائدة منها، كان يمر بيده على رأسه أو أن يعطس. وإذا ما صورت لقطة له بالطول كاملا بما في ذلك القدمين فانه يتعين إلا تشوب قامته شائبة وإذا قطعت الصورة عند الصدر فان يدي الممثل يجب إلا تظهر بأي حال أسفل الإطار.

ولذلك فان انطباع الحياة الحية في أفلام هيتشكوك إنما حملتها إلى هذه الأفلام في معظم الأحيان الشخصية التي نحتها الممثل لنفسه في أفلام صورت مع مخرجين آخرين. فجيمس ستيوارت حمل معه إلى سينما هيتشكوك حرارة جون فورد، وكاري كرانت أتى بالجاذبية التي تحققت له في ملهاة الخيانة الزوجية التي درج على تمثيلها..

Exit mobile version