تونس ـ «سينماتوغراف»
قيل قديماً “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، لذلك يأخذنا المخرج الجزائري مالك بن إسماعيل في فيلم “اغترابات” في محاورة حكيمة بين “المجانين” تكشف لنا من خلال حكايات المعذبين المهمشين والمنسيين شهادات فلسفية حكيمة تحلل واقع الجزائر الراهن وتستشرف مستقبله.
وتحتضن دار الكتب الوطنية بالعاصمة تونس غداً الجمعة عرض شريط “اغترابات” للمخرج الجزائري مالك بن إسماعيل، وذلك في إطار الحلقة السابعة للندوة الشهرية “مدخل إلى التحليل النفسي”. وتليه جلسة حوار تطرح مسألة التمثل السينمائي للواقع وعلاقة الكاميرا بالذوات الإنسانية وبالمجتمع، وقدرتها على تفكيك الواقع سياسيا واجتماعيا ونفسيا، من خلال مشاهد الفيلم الذي أنتج في العام 2005 ويعد الأول من نوعه في العالم العربي الذي يتجاوز تصوير الواقع عبر نقل وجهات نظر المرضى حول الحياة.
ويقدم شريط “اغترابات” بعض التصورات لمستشفى الأمراض العقلية والألم النفسي من وجهة نظر المرضى أنفسهم في محاولة من المخرج للفت النظر إلى الوضعية النفسية لفئة من المجتمع، وإبراز المعاني الكامنة في “هذيانها” بأسلوب فني ورؤية مفعمة بالمعاني الإنسانية تضع المشاهد أمام واقع المرضى واعتمالاتهم النفسية.
ويغوص الفيلم في تفاصيل حياة المجانين في مستشفى للأمراض العقلية في مدينة قسنطينة الجزائرية، بقدرة هائلة على التوثيق للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، من خلال حياة وشهادات المرضى النفسيين.
ويبيّن الفيلم أنه ليس هناك أعقل من هؤلاء المجانين الذي يعدون الحلقة الأضعف في المجتمع، وضحية قادتهم الظروف نحو المستشفيات، وهم نموذج على ما يبدو لحالات متشابهة في مجتمعاتنا العربية، التي تقهر المواطن، وتظلمه وتطارده في كل مكان وزمان، فلا يجد مكانا يحميه منهم سوى المستشفيات الخاصة بالمرضى النفسيين والتي تبدو فيها الحياة أرحم من الحياة في الخارج، تخلو من المشكلات والأزمات وتوفر للإنسان أبسط معالم الحياة الكريمة.
ويستطيع المريض في مستشفى قسنطينة، كما يوضح الفيلم، أن يأكل ويدخن ويتناول الأقراص المهدئة، وأن يتزين على يد حلاق خاص مرة كل شهر. وبين أسوار المستشفى وغرفه المعزولة، يجد المريض من يصغي إليه وينصت لحكاياته، فيستطيع التعبير عن مشكلاته وأفكاره بكل صراحة ودون خوف من الآخر وأحكامه السلبية القاسية. وبإمكانه أيضا أن يثور فيصرخ ويبكي دون أن يبالي أحد به أو يطلب منه الصمت والهدوء.
ويقدم الفيلم إدانة لبعض الأنظمة السياسية العربية وحكوماتها التي تتشبث بعوالم الغيبيات والخرافات، وتنغرس أكثر في ظلمات العصور الوسطى، وتدير ظهرها للتقدم والتطور. كما يسلط الضوء على سلبيات الحياة في الأحياء المكتظة المليئة بالضجيج والأكاذيب والخداع، فتقود بعض الأشخاص إلى التوتر والأمراض النفسية حتى أنها دفعت إحدى شخصيات الفيلم إلى تفضيل العيش في المقابر وبين الأموات لأنها لا تسمع لهم صوتا ولا شكوى من الواقع المرير.
ويسير فيلم “اغترابات” وفق إيقاع فيلمي هادئ ومشاهد حميمية تجعل المشاهد يتعاطف مع هؤلاء المجانين ويحبهم، ويقدم له شهادات جد صادقة ومرعبة على ألسنتهم، وهو يتابع تفاصيل حياتهم اليومية وتنقلات الكاميرا المتوازنة بين عنابر النساء والرجال.
ومالك بن إسماعيل سينمائي جزائري كرّس جهوده لإنتاج الأفلام الوثائقية منذ التسعينات حين كانت بلاده تمر بمأساة العشرية السوداء.ويراوح الفيلم في استعراضه لمنطق المجانين في مقابل منطق العقلاء، ويعتمد التقابل والتضاد بني العالمين (داخل المستشفى وخارجه) ليكشف عن تناقضات المجتمع الجزائري الراهن وأزماته، ويشير إلى أن المجانين الحقيقيين بالفعل، ليسوا هؤلاء المرضى الذين نلتقيهم في المستشفى، بل أغلبية المواطنين المسحوقين الذين ما زالوا يتذرعون بالصبر في مواجهة المظالم التي ترتكب بحقهم في الخارج.
وأخرج بن إسماعيل هذا الفيلم كي يكون تحية إلى والده الطبيب النفساني الراحل -ويبدأ الفيلم بزيارته لقبر الوالد- الذي كرس كل حياته، وجاهد لبناء ذلك المستشفى في قسنطينة، ودرّس للأطباء العاملين فيه حاليا، الذين اهتدوا بنبراسه، وساروا على ذات الدرب، ليصبح الفيلم تحية ونموذجا ودرسا في السينما الوثائقية التي تكشف عن تناقضات مجتمعاتنا العربية.
وقد حظيت أغلب أفلامه بترحيب النقاد ونالت جوائز في العديد من المهرجانات الدولية. ويتم عرض هذه الأفلام في قاعات السينما كما تبثها القنوات التلفزية في جميع أنحاء العالم، ولاسيما في أوروبا، ومن هذه القنوات: “آرتي” (ألمانيا ـ فرنسا)، و“كلتورا تي. في” (البرازيل)، و“التلفزة البلجيكية الفرنكوفونية”، و“تي.في.3” (إسبانيا)، و“إيلي” (فنلندا)، و“فرانس تي.في” (فرنسا)، و“كنال بلاص” (فرنسا)، و“بي.بي.سي.شانل فور” (المملكة المتحدة)، وقناتا التلفزة السويسرية الناطقتين بالفرنسية وبالإيطالية، والقناة الدولية “تي.في.5 موند”.
وفاز مالك بن إسماعيل بجائزة “فيلا كوجوياما” (كيوتو، اليابان) في عام 2010. وعرضت أعماله في كبرى الجامعات الأميركية في خريف عام 2018.