القاهرة ـ أحمد حسونة
يأتي فيلم محمد خان الأخير «قبل زحمة الصيف» نتاج سنوات عديدة من الخبرة السينمائية والحياتية، أخرج خلالها العديد من الأفلام التي شكلت وعينا السينمائي بقضايا وطننا الشائكة، ليقدم لنا فيلما نستطيع القول بدون تردد «السهل الممتنع»، وهو ما يتناسب مع عنوان الفيلم وموضوعه.
فمتعة الهدوء والجلوس أمام البحر لساعات يساعد الأنسان علي ترتيب أفكاره ومواجهة الحياة مرة أخري، وكما تقول ماجدة (لانا مشتاق): «اللي بيجي هنا يا بيدور علي حاجة أو هربان من حاجة» يلخص الأمر في البحث أو الأختباء أو كلاهما معا، فحالة القرية الساحلية في ظل عدم وجود كثافة لروادها، تحقق هذه الإزدواجية. فالشاليهات صغيرة، حميمية، ومريحة، وفي نفس الوقت مرتبطة بالعالم الخارجي المريح الهادئ (البحر والشمس الساطعة والرمال)، والذي يستطيع خلاله كل شخص أن يستمتع بوحدته، وفي نفس الوقت تسمح بحالة الأقتحام والتعارف في حدود، فالنوافذ والأبواب تترك لمن يريد أن يدخل أو للمرغوب في دخوله.
من هذه الحالة المكانية الخاصة، ندخل القرية السياحية التي تدور بها أحداث الفيلم، ونخرج منها بشكل مفاجئ مع جمعة (أحمد داود)، اللامنتمي إلي هذه القرية أو الطبقات الأجتماعية التي تستمتع بها، فهو يعمل فقط لمدة قصيرة «قبل زحمة الصيف» من أجل خدمة رواد القرية وملاكها.
يلعب جمعة دورا أساسيا في تعرفنا علي الشخصيات المتواجدة بالقرية وتعريفها ببعضها: د.ماجد مدير المستشفي الاستثماري الهارب من فضيحة، وزوجته ماجدة. هالة(هنا شيحة) السيدة الجميلة والمتحررة في سن الأربعين وعشيقها هشام (هاني المتناوي)، الممثل ذو الشهرة المحدودة.
ونستطيع القول بأن ما يجمعهم جميعا، حالة من النظر أو التلصص بشكل فاضح، وهو ناتج عن عدم وجود تواصل إجتماعي حقيقي بين الشخصيات، وسيطرة الرغبات ومحاولة قمعها لعدم القدرة علي هذا التواصل.
فدكتور يحيي يتلصص من خلال نظاراته المكبرة علي البلاج ومن يجلس عليه. وتتلصص عليه زوجته لتراقب أفعاله وتتحسر علي نفسها من خلال مشاهدة صور الجميلات علي اللاب توب الخاص بيحيي، وعلي حواره مع هالة علي العشاء. ويتلصص جمعة علي هالة لرغبته فيها، وتتلصص هالة علي جمعة لتعرف إذا كان قد كشف وجود هشام عندها أم لا. ويغازل هشام هاله، وينظر إليها لإشباع رغباته وشهواته بها. وقد شارك الثلاثة (يحيي وماجدة وهالة) حالة التلصص عندما تسلل فتي أجنبي و فتاة أجنبية، فالجميع ينظرون إليهما وقد تمنوا أن يكونوا في أماكنهم أحرار، بلا قيود، يسعون لإشباع متعتهم فقط، لكن د.يحيي يتصل بجمعة ليأتي ويمنع ما يحدث برغم رغبته في أن يكون في مكان الفتي، وجمعة يقوم بضربهم أيضا وطردهم ليس فقط من باب تنفيذ الأوامر، ولكن من باب الغيرة.
هذه الغيرة تمتد أيضا بين د.يحيي وجمعة، فجمعة فتي ذو حيوية فائقة، والأثنين يرغبان في ري الحديقة من خلال خرطوم المياه الذي يعبر عن الذكورة وتدفق ماء الحياة منه وبالتالي نجد هناك صراعا بينهما في من يقوم بري الحديقة.
هذه المحاولات الفاشلة للتواصل تؤثر علي الجميع، فـ د. ماجدة تلجأ إلي جلسات التأمل علي الشاطئ للتغلب علي الصداع النصفي وأزمات الربو التي تنتابها، لمعرفتها بأن زواجها قائم علي أساس المصلحة، وأن زوجها ينظر دائما علي النساء الجميلات، بينما الزوج غارق في مشاهداته الجنسية ومحاولاته للتواصل مع النساء والفتيات الأصغر سنا مما يؤدي إلي أصابته بجرح في ساقه نتيجة مغازلته لفتاة يرافقها شاب.
بينما هالة غير قادرة علي الحفاظ علي علاقتها بهشام نتيجة الغيرة وإختيارها الخاطئ في المقام الأول، فأختيارها مبني علي علاقة عابرة وليست علاقة حقيقية يمكن آن تتطور إلي زواج، فكما يقول لها هشام «أنتي لما حتتجوزي، حتتجوزي حد زيكم دكتور مهندس، مش ممثل»، وعندما وجد هشام أنها ستعوقه عن علاقته بالمنتجة، قرر أن يتخلي عنها.
أما بالنسبة إلي جمعة فقد أدي عجزه عن إقامة علاقة مع هالة، إلي أن يتعلق بممتلكاتها عوضا عنها بشكل فيتشي، مثل أخذه علبة سجائرها لتلامس شفتاه مبسم سجائرها أو أن يحتضن مايوها علي حبل الغسيل، وأن يسعد بركوبها علي دراجته. إحتياجه الشديد لها يجعله يتخيل نفسه في أحضانها بعد عودتها من عند دكتور يحيي و هي في حالة سكر.
حتي محاولة التواصل بين د.يحيي و هالة من خلال دعوته لها علي العشاء التي كانت تبشر بتطور العلاقة بين د.يحيي و هالة من خلال التمهيد لهذه الزيارة بإعداد الطعام الشهي والذي يرتبط من خلال الموروث الشعبي بأن الشخص لديه «نفس»، وهو ينم عن وضع الحياة في الأكلة مما يعطيها مذاق لذيذ، وذلك من خلال المونتاج المتوازي مع د. يحيي الذي يعد الأكلة البحرية ودلالة ذلك في تنشيط الحافز الجنسي، وهالة التي تعد كيكة الجبنة التي تنم عنها كحلوي تقدم، وبالرغم أن الأمسية تنتهي بينهما علي خير ماعدا موقف الزوجة الغيور التي تتعامل بجفاء مع هالة وتنسحب لتتلصص عليهما من باب الغرفة، إلا أن غيرة جمعة من د.يحيي أدت إلي أن ينتقم منه من خلال فتح باب قفص البغبان لتهجم القطط علي الطير، وتأكله بعد تطاير ريشه في الهواء، لتكتشف الزوجة ذلك، وتوقظ زوجها المخمور، وتواجهه بأنه شخص قذر لا يستحق أن يعيش معها و تطرده من الشاليه، و سكر هالة مع المطر المنهمر يجعلها تسقط علي الأرض (الوحل) وهو مرادف لأحساسها بالذنب بعدم أهتمامها بأطفالها.
تظهر الفروق الطبقية بشكل صارخ بين جمعة صاحب الغرفة الفقيرة، ورواد القرية، والتي علي أثرها نجد عند جمعة «غل» طبقي يظهر في أخذه بعض الأشياء الخاصة بهم عندما أوشكت هالة علي الغرق، وعندما فتح باب القفص للبغبغان. بل أن فكرة الطبقية لم تقف عند الفروق الكبيرة، بل تعدت إلي الفروق الصغيرة وهو ما نلاحظه في تعريف د.يحيي بأن شاليهه في الصف الأول وشاليه هالة صف ثالث، ونعود لهذا التمييز في حفل العشاء باحتقار د.ماجدة، إبنة مؤسس القرية لهالة لأن عائلة هالة ليست من الجمعية التي تميزت بالصفوف الأولي علي الشاطئ.
حتي هشام الممثل يعاني من الفرق الطبقي بينه وبين هالة عندما يتحدث عن أهمية عمله وأنه لا يستطيع أن يتوقف عن العمل لأنه لا يوجد أحد يصرف عليه مثلها.
هذا التمييز الطبقي يرمي بأبعاده علي الواقع الخارجي ويكشف عن فساد مجتمعي يعطي لهذه الطبقة هذا التميز.
وبالرغم من الأبعاد النفسية التي قد تصل في بعض اللحظات إلي مستوي الشذوذ المرضي، والمشاكل المجتمعية والزوجية، إلا أن الفيلم تعامل معها بشكل بسيط وسلس للغاية، بل وممتع للجميع ويعطي طاقة إيجابية للمشاهد بالرغم من أن شخصيات الفيلم معظمها لم تتطور كمقتضيات الفيلم الكلاسيكي، بل تكمل حياتها بنفس الأسلوب، فضلا عن عدم إصدار إي أحكام أو تعاطف مع شخصيات ضد شخصيات أخري، بل الشخصيات كلها تقف تقريبا عند مسافة واحدة من التعاطف، لدي المتفرج وهو ما يحتاج إلي أستاذية المخرج مثل مخرجنا الكبير محمد خان للحفاظ علي هذه المسافة وهذه الروح.