محمود درويش
لم يتخل يوما عن لهجته الصعيدية رغم سنوات اقامته الطويلة فى القاهرة، بل ظل مندوبا للصعايدة والمتحدث الرسمى باسمهم فى دراما الصعيد، إنه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى ابن الجنوب، عاش مخلصا لوجه قبلي فى أغانيه وأفلامه ومسلسلاته، الأبنودى المولود فى 11 ابريل 1938 والذى توفى فى 21 ابريل 2015، لا يزال بعد سنوات على رحيله ملء السمع والبصر بعطائه الكبير وبصماته على الأغنية والسينما، وفي إطار ذلك نسلط الضوء على أربع محطات مهمة شكلت مسيرته السينمائية، وجاءت متفردة وتميزت بصدقها فى طرح قضايا أهل الجنوب، وامتد الصدق من الطرح الى المعالجة الى التصوير، وحتى لهجة الممثلين، فلم يفلت منها مشهد واحد يهدد مصداقيتها أمام جمهور الصعيد.
شئ من الخوف
عرف الأبنودى كشاعر الحب والوطنية، وظلت كلماته تفيض شجنا وانتماء ورومانسية، لكن اتجاهه للكتابة السينمائية خضع للصدفة البحتة، فلم يخطط له، ولم يسع اليه، فقد حدث أن كان فى زيارة لاستوديو نحاس، وفجأة وجد أمامه المخرج حسين كمال يقول له «أين أنت؟ إني أبحث عنك.. خد هذا السيناريو واكتب الأغانى الخاصة به، وأريده بصورة ملحمية مختلفة، ومعك شادية والكورال»، وكان السيناريو لفيلم «شيء من الخوف» المأخوذ عن رواية الأديب ثروت أباظة. وعندما قرأ الأبنودى القصة والسيناريو والحوار الأول للفيلم الذي وضعه صبري عزت، قال لنفسه إنه من الحرام أن لا يكون هذا الفيلم «صعيديا خالصا»، حيث كان مكتوبا باللهجة البحراوية، وهي لهجة يعرف المصريون جيدا أن هناك فارقا كبيرا بينها وبين اللهجة الصعيدية، وراودته فكرة أن يكتب حوارا جديدا للفيلم برؤيته ليكون أكثر ملحمية، لكن واجهته مشكلة، اذ كيف يمكن أن يقوم بذلك والقائمون على الفيلم يعملون عليه منذ أكثر من عام ونصف العام، ويستعدون لبدء تصويره، وهنا دخل الأبنودى فى تحد مع نفسه، وقرر أن يعيد كتابة الحوار في أربعة ايام فقط، وقام بحذف مشاهد وإضافة أخرى، وذهب بعدها إلى حسين كمال ليسمعه ما كتب.
طار المخرج من الفرحة والقلق فى آن واحد وتساءل هل سأغير كل الترتيبات التى قمت بها لبدء التصوير، لكنه حسم أمره سريعا، واتصل بمنتج الفيلم صلاح ذو الفقار، وقال له: «سنلغى كل الورق الذي أعطيته للممثلين، هناك حوار جديد للفيلم»، ولأن اللهجة الصعيدية كثيرا ما يتم تحريفها على لسان الممثلين فى الأعمال الفنية مما يثير سخرية أبناء الصعيد، فقد لجأ الأبنودى لحيلة جديدة حيث قام بتسجيل حوار الفيلم كاملا على شريط كاسيت، وعندما سأله حسين كمال كيف نضمن أن يتقن أبطال الفيلم أداء هذه اللهجة الصعيدية الصعبة، اقترح الأبنودى طبع عدة نسخ من الشريط وتسليمها لأبطال الفيلم ليحفظوها ويألفوها.
وقد كانت النتيجة أكثر من رائعة، خاصة وقد أعطاه المخرج حق حضور التصوير وصلاحية أن يقول «ستوب» اعتراضا على أى خطأ من الممثلين فى نطق الحوار وقد كانت النتيجة أكثر من رائعة وزاد من روعتها الموسيقى الخلابة التي وضعها العبقري بليغ حمدي للأغاني والموسيقى التصويرية، وقد ظهر أبطال الفيلم جميعهم في أفضل حالاتهم بدءا بشادية ومحمود مرسي، ومرورا بيحيى شاهين ومحمد توفيق وأحمد توفيق وجمالات زايد، وحتى الوجوه الجديدة حينذاك محمود ياسين، وحسن السبكي وبوسي، وازداد الفيلم ألقا بعد التغييرات التي أدخلها الأبنودي على السيناريو بتغليظ شخصية عتريس وزيادة قسوته كما ظهر في الفيلم، ولاقت اضافاته اشادة من فريق الفيلم وفى مقدمتهم المخرج حسين كمال والمنتج الفنان صلاح ذو الفقار فالشخصيات تكلمت كما أراد، وعبرت كما يرى، وتحدثت بما قاله، فقد كان مسؤولا عن تحفيظ الممثلين الكبار طريقة النطق السليمة للعبارات التى كتبها.
وقد قام عبد الرحمن الأبنودي بتغيير معالم القصة لتخدم الصورة السينمائية البديعة التى رسمها حسين كمال، تلك الصورة المحفورة لـ«عتريس» الذى يقمع أهل بلده، لكنه يضعف أمام حبه لـ«فؤادة» التى وقفت مع أهل قريتها ضده، و«فتحت الهاويس»، تلك الآلة اليدوية التى تتحكم في مرور الماء إلى الترع في الأراضي الزراعية. ذلك المشهد التاريخى الذى لم يشارك فيه مجاميع من الكومبارس كما جرت العادة، لكن شارك فيه سكان قرية بأكملها لذلك جاءت المشاهد صادقة وحقيقية وواقعية، وبلا أى ذرة من تمثيل.
هذا الفيلم وحده يكفى كل من شارك فيه فخرا أنه كان شجاعا فى مواجهة النظام الحاكم وقتها، فالكل كان يشعر أن «فؤادة» ترمز إلى مصر وأن «عتريس» يرمى الى الرئيس جمال عبدالناصر، لكنه وافق عليه رغم ذلك ولم يمانع فى عرضه، لكن الذى خلد الفيلم وجعله صالحا لكل العصور، حرفيته العالية، ومهارة صانعيه الذين لم تحركهم كراهية وحقد بقدر ما حركتهم وطنية وإخلاص وحب شديد للبلد والحرية، وضعت الفيلم في المرتبة التاسعة عشرة في قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
وقد فرح الأبنودي كثيرا بعمله في فيلم «شيء من الخوف» ليقدم للمصريين المجتمع الصعيدي الذي لا يعرفونه كما ألفه هو. فمن غير (الخال) كان يمكن أن يعبر عن حالة عتريس سواء عندما كان صاحب القلب الأخضر البريء أو عندما انضم إلى زمرة الشر.
وكان الأبنودى قد اشترط أن يتم وضع اسم السيناريست صبرى عزت قبل اسمه حفظا لحقه ولجهده الذى بذله قبل أن يأتى الخال ويغير ملامح السيناريو والحوار، لكن رغم كل ذلك لم يحصل الأبنودى سوى على مقابل كتابة الأغانى.
والمدهش أن فيلم «شىء من الخوف» الذى ننتظره ونشاهده إلى الآن لم ينجح حين تم عرضه فى السينما للمرة الأولى، وذلك بعد عامين فقط من نكسة يونيو 1967، فقد كان حزن الناس وقتها يطغى على المشهد، بل إن أغلب الناس كانت تنصرف إلى الأفلام الكوميدية التى كانت تسيطر على الحالة السينمائية.
أغنية الموت
المحطة الثانية للأبنودي في السينما جاءت مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. فرغم ارتباط الناس بفيلم «شىء من الخوف» وانتشاره الجماهيرى الواسع فيما بعد، فإن عبدالرحمن الأبنودى كان يرى أن كتابة السيناريو والحوار ليست مهنته وأنه «مجرد ضيف» لكنه فى الوقت ذاته لم يَغِبْ عن المشهد.
فبعد فترة من عرض فيلم «شيء من الخوف»، كانت فاتن حمامة قد قررت أن تصنع ثلاثة أفلام تستغرق وقت فيلم واحد، ووقع اختيارها على كتاب «المسرح والمجتمع» لتوفيق الحكيم، وبالتحديد على مسرحية «أغنية الموت» وقررت تحويلها إلى فيلم قصير(أقل من 40 دقيقة) واتفقت مع المخرج سعيد مرزوق على أن يكتب الأبنودى السيناريو والحوار. وفى اليوم التالى اتصل مرزوق بالأبنودى وقال له: «فاتن حمامة تريد أن تراك»، واندهش الخال فلم تكن تربطه أى علاقة بها قبل ذلك، ولم يتخيل أنها تعرفه وتطلبه بالاسم، خاصة أن شهرته كشاعر أكبر وأعمق بكثير من شهرته ككاتب سيناريو وحوار، ولكنه أدرك فيما بعد أنها اختارته بعد أن شاهدت «شىء من الخوف».
والتقى الأبنودى مع فاتن حمامة فى شقتها بعمارة ليبون على شاطئ النيل بالزمالك، وجلسا معا لساعات طويلة، فى حجرة ذات طراز عربى يشبه بيته فى المهندسين، وقالت له: «اقرأ مسرحية أغنية الموت»، واكتب السيناريو والحوار والأغنية، أريد نصا كاملا، وأنا سأقوم بدور «عساكر».
ورغم ارتباط الناس بفيلم «شىء من الخوف» وانتشاره الجماهيرى الواسع فيما بعد، فإن عبدالرحمن الأبنودى كان يرى أن كتابة السيناريو والحوار ليست مهنته وأنه «مجرد ضيف» لكنه فى الوقت ذاته لم يَغِبْ عن المشهد، وبعد ثلاثة أيام فقط كان الأبنودى قد انتهى من كتابة السيناريو والحوار، وقد رسم صورة سينمائية لمكان يشبه بيت جدته «ست أبوها» فى أبنود، الغرفة، السلم الطينى، السور المبنى بأزيار الماء المقلوبة، والملابس والوشم على الوجوه، وباب البيت ذو الضلفة الواحدة الذى يصدر عند فتحه وإغلاقه أنينا يشبه أنين السواقى، وكانت المرة الأولى التى تخرج فيها مشاهد سينمائية تتطابق مع الواقع.
أُخِذت فاتن حمامة بهذا العالم الذى استحضره الأبنودى على الورق، وبقدرته على تحويل المسرحية إلى واقع من لحم ودم، وأصرت على أن يتولى بنفسه مهمة تدريبها على طريقة النطق، ولتعرف منه طبيعة هذا العالم الذى لم تسمع عنه من قبل، بل إنها كانت ترفض بدء التصوير فى الاستوديو إلا إذا حضر عبدالرحمن الأبنودى، حتى أطلقوا عليه لقب «الخبير الأجنبى».
وكان من الممكن لهذه التحفة الفنية الفريدة التى شارك فيها كريمة مختار وحمدي أحمد وعبد العزيز مخيون، أن يكون حظها أفضل، لولا أنه تقرر عرضها فى صباح أول أيام العيد، ففزع أهل المرح من قيادات التليفزيون – على حد تعبير الأبنودى – وكتبت رئيسة التليفزيون آنذاك (همت مصطفى) تأشيرة عجيبة نصها «كفانا كآبة»، ولم تلتفت إلى أهمية هذا العمل الفنى الذى جمع بين العمالقة توفيق الحكيم وفاتن حمامة والأبنودى، ومنذ ذلك اليوم لا يذاع هذا العمل، ولو على سبيل الخطأ.
الطوق والأسورة
وكانت المحطة الثالثة للأبنودي في السينما من فيلم «الطوق والأسورة» عام 1986 للمخرج خيرى بشارة الذي طلب منه تحويل رواية الأديب يحيى الطاهر عبدالله «الطوق والإسورة» إلى فيلم سينمائى، حماس الأبنودى جاء من صداقته الوطيدة للأديب الراحل، وكالعادة برع فى كتابة السيناريو والحوار باللهجة الصعيدية للفيلم الذى لعبت بطولته شريهان واحمدعبدالعزيز وعزت العلايلي وفردوس عبدالحميد، وتدور قصته حول حزينة «فردوس عبدالحميد» التي تعيش مع زوجها بخيت البشارى «عزت العلايلي» المشلول والمصاب بالسل وابنتهما فهيمة «شريهان» في قرية الكرنك بالأقصر عام 1933، تأمل أن يعود ابنها مصطفى الغائب والذي نزح إلى السودان بحثا عن لقمة العيش. يتزوج الحداد الجبالى «أحمد عبدالعزيز» من فهيمة بعد وفاة أبيها، ولأنه عاجز جنسيا فإنها تتأخر في الإنجاب فتلجأ أمها إلى المعبد ليباركها الشيخ هارون، ويأتى الحل على يد حارس المعبد نفسه، وتنجب المولودة فرحانة التي لا يعترف بها الأب لعلمه بعجزه جنسيا، تمرض فهيمه وتموت لعلاجها بشكل بدائي، تمر السنون وتسعى فرحانة الحفيدة مع جدتها حزينة لكسب قوتها. تحمل فرحانة سفاحا. يعود خالها مصطفى بعد سفره الطويل ويحاول تغيير مفاهيم أهل القرية دون جدوى، وفي النهاية تموت فرحانة قتيلة على يد ابن عمتها، ورغم النجاح الذى حققه الفيلم إلا أن التجربة في مجملها لم تقنع الأبنودى ولم تكن على المستوى الذي يطمح فيه بسبب أخطاء إخراجية من وجهة نظره.
ولم يعجب الأبنودى بهذه التجربة رغم جمالها، وثناء النقاد عليها، فقد كان يرى أن خيرى بشارة وقع فى خطأ كبير حين استعان ببعض فرق التمثيل بالأقصر لتحفيظ الممثلين، ولهجة الأقصر تختلف تماما عن تلك اللهجة التى كتبها، بل إن الأبنودى أكد أنه لم يفهم بعض الكلمات التى قيلت على لسان بعض الشخصيات رغم أنه كاتب الحوار.وقد حل هذا الفيلم في المرتبة العشرين ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
المحطة الرابعة.. البريء
توافرت لفيلم «البرئ» كافة عناصر النجاح من فكرة جريئة وسيناريو محكم كتبه وحيد حامد، واخراج الموهوب عاطف الطيب، وبطولة العبقرى أحمد زكى، واكتمل المشهد السينمائى بالأغنيتين اللتين كتبهما الشاعر الكبير وصاغ ألحانهما وأداهما الموسيقار عمار الشريعى لتكتمل هذه المعزوفة السينمائية البديعة وتدوى كلمات الأغنيات فى أذن المتفرج فيخرج من دور السينما مرددا لها واللتين عبرتا أفضل تعبير عن الأحداث، وكانت إحداهما نهاية الفيلم وهي أغنية يا قبضتي، واحتل الفيلم المرتبة الثامنة والعشرين ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصري.
الأبنودى الذى صال وجال فى بحور الأغنية المصرية وردد كلماته كبار المطربين والمطربات ومنهم عبد الحليم حافظ، نجاة، وردة، شادية، محمد رشدى، وغيرهم، كما كانت كلماته وراء تيترات المسلسلات الناجحة مثل أبو العلا البشرى، والرحايا، خالتى صفية والدير، ذئاب الجبل وكان صوت على الحجار شريكا أساسيا بها.
رحل «الخال» عن دنيانا بجسده فقط، لكن أشعاره وإسهاماته الفنية والسينمائية والوطنية باقية لتشكل وجدان الأجيال المقبلة كما شكلت وجدان الأجيال التى عاصروها.