«سينماتوغراف» ـ عمار منلا حسن
لا يعدو صانع الأفلام النيويوركي وودي آلن كونه غيضاً من فيض الفنانين التي تناولت أعمالهم الفلسفة الوجودية وأزمتها، خصوصاً وأن الوجودية تعد الفلسفة الأكثر ارتباطاً بالفن على الإطلاق، حيث نظر إليها في بداياتها المبكرة كتوجه أدبي / فني أكثر منه فلسفي، وفي الوقت الذي أضاف الفنانون للوجودية من أفكار ذات أصالة وجدة مثلما أضافه الفلاسفة، لا يمكن تصنيف آلن كواحدٍ منهم، إذ أن أفلامه شخصية إلى حدٍ بعيد، يصنعها «لعلاجه (النفسي) الشخصي»، ولا يسعى من خلالها للتوصل لنتائج قابلة للتجريد والتعميم.
لكن هذا بالضبط ما يجعل سينما آلن محط دراسة كظاهرة فنية تمثل الوجودية. خصوصاً وأن إصراره على كتابة وإخراج فيلم جديد كل عام قد زوده بمخزون سينمائي من 46 فيلماً، تمكن من خلالها من طرح معظم قضايا الوجودية الحرجة، بل غالباً ما طرح القضية الواحدة أكثر من مرة. وتأكيداً على ذلك يكفي الإشارة إلى أن فيلمه الأخير «Irrational Man»، والذي يعرض في دور السينما حالياً، يتحدث عن دكتور فلسفة أنقذته علاقته بإحدى طالباته من أزمة وجودية.
الوجود والعدم: الأزمة الوجودية الشخصية
تبدأ مواجهة آلن السينمائية للوجودية، كما تبدأ مع أي شخص عايش هذه الفلسفة، بذعر وجودي من هشاشة حياة الإنسان الفرد، وتمثلها كصدفة عابرة محاطة بالعدم من طرفيها، نرى ذلك في فيلمه المبكر «Love and Death» (وهو محاكاة كوميدية لفيلم السويدي إنغمار برغمان «The Seventh Seal»)، وهنا نرى الشخصية التي يلعبها آلن في رحلة هرب مستمرة من الموت منذ المشهد الأول، متوقفاً بين الحين والآخر للبحث عن أجوبة حول معنى الحياة وما الذي يوجد وراءها (أو بعدها). تقول إحدى شخصيات الفيلم معبرةً عن رأيها حول الموت: «لا أعتقد أن الخوف هي كلمة مناسبة.. أنا مذعورة من الموت».
لاحقاً يعود آلن للأزمة الوجودية الشخصية، لكن بعد مزامنتها مع أزمة منتصف العمر بشكلٍ أو بآخر، ففي فيلمي «Hannah And Her Sisters» و«Whatever Works»، تصل الشخصيتان إلى مرحلة معينة يبدو فيها الموت –الذي يخفي خلفه محيطاً من العدمية- أمراً حتمياً على نحوٍ غير مقبول ومفاجئ، حتمياً لدرجة تجعل الحياة لا معنى لها.
بلغ يأس آلن تحت وطأة هذه الأزمة أن يتساءل في اثنين من أفلامه الثلاثة السابقة: لماذا نستمر بالحياة؟ لماذا لا ننتحر لو كان مصيرنا العدمية على كل حال؟. ثم يبدأ بالبحث عن أجوبة تكون في جوهرها متماثلة في الأفلام الثلاثة، والتي عبر عنها آلن في «Hannah And Her Sisters» بقول شخصيته: «ربما كان الشعراء على حق! ربما كان الحب هو الجواب الوحيد».
الحرية المطلقة أم المقننة؟ الأزمة الوجودية الأخلاقية
تقدس الوجودية الحرية، بل يقول سارتر أن الجنس البشري قد «حكم عليه بالحرية (المصحوبة بالمسؤولية) »، لكن الأزمة تبدأ مع كون الحرية المطلقة تعتدي على حريات الآخرين، وإذا منعت من ذلك لم تعد مطلقة بل محدودة. يتصدى آلن لهذه الأزمة عبر ثلاثة من أكثر أفلامه حيازةً على الثناء النقدي: «Love And Death» و«Crimes And Misdemeanors» و«Match Point».
ففي الفيلم الأول يقف آلن حائراً أمام أخلاقية القتل، انطلاقاً من القتل الجماعي وغير الشخصي، كما في الحروب حيث لا يعرف القاتل من يقتل، وقد لا يرى ضحاياه من الأساس (في حال استخدام أسلحة بعيدة المدى مثلاً)، وصولاً للقتل الشخصي وجهاً لوجه. ثم يدفع آلن الحجة الأخلاقية إلى أكثر حوافها حرجاً حيث يتساءل: هل يصح القتل لمنع القتل؟ كأن نقتل سفاحاً لمنعه من ارتكاب مجازر؟ لكن ماذا عن الأخلاق؟ هل هي أمر موضوعي أم ذاتي؟.
أما في الفيلم الثاني «Crimes And Misdemeanors»، فتواجه إحدى شخصيات الفيلم أزمة أخلاقية مماثلة حول القتل، فيما تعد الأخرى فيلماً وثائقياً حول فيلسوف وجودي، وينتهي الفيلم بمشهد يجمع بين الشخصيتين، ليتباحثا فيه القضية الوجودية المتعلقة باستبدال الإنسان للإله، من حيث لعبه دور المشرع الأخلاقي الأول، دون الانطلاق من المفاهيم السائدة للخير والشر.
وأخيراً في «Match Point»، يقدم آلن إعادة إنتاج معاصرة (وغير حرفية على الإطلاق) لكلاسيكية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب»، علماً أن الأخير يعد من أول أعلام الوجودية ومصدر تأثير على معظم الأدباء والفلاسفة الوجوديين الذين لحقوه. وهنا نرى تحدياً لفكرة «القدرة الأخلاقية على القتل» عند النظر للضحية كشخص أدنى من القاتل.
الفردية والقطيع: الأزمة الوجودية المجتمعية
يعد «القطيع» كابوس الوجوديين المطلق، وقد حارب نيتشه المسيحية والشيوعية مدعياً قبل كل شيء أنهما مذاهب تروج للقطيعية وتسعى لوأد الفردية. وفي فيلمه «Zelig»، يقدم آلن كابوس الوجودية بسياق كوميدي وقالب وثائقي ساخر، لاعباً دور بطل الفيلم «ليونارد زيليغ»، الذي قايض فردانيته بالقبول الاجتماعي، ما انتهى به للتحول إلى «حرباء بشرية»، تنسخ وتحاكي بشكل فوري خواص محيطها البشري: يحول لون بشرته ووزنه ولهجته ومعتقداته السياسية ليحظى بود وقبول الآخرين!
ولم يعفِ آلن خطر التطرف في الفردية حد التعنت الراديكالي من السخرية. حيث خبر «زيليغ» في الفيلم مرحلة مماثلة خلال العلاج النفسي، لدرجة أنه لما لم يتفق مع أحدهم أن «الطقس جميل اليوم»، ولم يفلح بتغيير رأيه، لم يجد مناصاً من الانخراط بعراك جسدي معه.
أما في فيلم «Interiors»، فتبدو شخصيات الفيلم التي تسلقت السلم الاجتماعي بسرعة زائدة بعض الشيء، تبدو متأرجحةً وعلى وشك السقوط، نحو أصلها الذي تتنصل منه وتنكره، حتى تبدو شخصيات الفيلم «دخيلةً» على حيواتها الخاصة، عالقةً بين مظهر الحياة التي تحاول الحفاظ عليه، وبين حقيقة الحياة التي هربت منها، ما يجعلها تحارب من أجل أسلوب حياة لم تعد متأكدة من أنه يلائمها، وتبدأ بالإنصات لنداء داخلي للبحث عن حقيقتها الذاتية ووجودها الفرداني الأصلي.
اعتناق الوجودية والتغلب على أزمتها
في بداية «الرحلة الوجودية»، يشعر معتنقو هذه الفلسفة بالذعر من هشاشة الحياة وحجم المسؤولية الهائل الملقى على كتف الإنسان الفرد، ثم غالباً ما يتصالح الوجوديين مع هذه الحقيقة حتى يجدوا فيها تحدياً ملهماً وفاتحاً للشهية نحو الحياة. آلن بدوره توصل إلى تصالح مماثل في أفلامه الأخيرة على وجه التحديد، والتي يغلب عليها تقديس الجمال و«الفن لأجل الفن». نرى ذلك في فيلمه قبل الأخير «Magic In Moonlight»، لكن بشكل أوضح في عمله الأيقوني الذي حقق نجاحاً تجارياً ونقدياً هائلاً «Midnight In Paris».
في هذا الفيلم يواجه «الفنان» الأزمة الوجودية، ولا يقصد آلن أي فنان لكن «الفنان» بالحالة التجريدية المطلقة. بطل الفيلم هو كاتب يواجه أزمة وجودية بذاته، قبل أن يعود بطريقة سريالية إلى باريس في العشرينات، ليجد نفسه بصحبة هيمينغواي وفيتزجيرالد ودالي وبيكاسو وسواهم، ويستغل حسن الصحبة للكتابة والتنقيح في روايته، التي لا يزال يسكنها خوف وجودي من العدم، قبل أن تظهر راعية الفنون التصويرية الحديثة «غرترود شتاين» بنصيحة بهذا الصدد، قائلةً لبطل الفيلم: «جميعنا نخشى الموت ونتساءل حول دورنا في هذا الكون، لكن على الفنان ألا يستسلم لليأس، بل أن يجد علاجاً للفراغ الذي يعاني منه الوجود».