رام الله ـ «سينماتوغراف» : يوسف الشايب
شكّل “الإبحار في الجبال”، رحلة سياحية سينمائية ذكية، استطاع عبرها الفرنسي كريم عينوز، أن يحملنا على بساطه السحري الطائر أو العائم أو سباعي الدفع إلى حيث أرض جدِّه لوالده في الجزائر، محملاً بذكريات والدته البرازيلية “إيراسيم”، وترافقه -بالإضافة لنا نحن المشاهدين- كاميراته، فحسب.
والفيلم الذي عُرِضَ، ضمن فعاليات مهرجان أيام فلسطين السينمائية بدورته التاسعة، يبدو كأنه قرعٌ على طبول الذاكرة، أو رقصة عابرة للزمن، ما بين أكثر من قارة، بحثاً عن أجيال سابقة وأخرى لاحقة، في مغامرة مُعاكسة حد التناقض مع مغامرات المهاجرين نحو الحلم الأوروبي الزائف أغلب الأحيان، في زمن الغرق والتضليل والكثير من العويل.
يذهب بنا عينوز في رحلة عابرة للجغرافيا إلى حيث يريد هو، للبحث عن شيء ما، لا ندركه تماماً كما هو، ولسنا متأكدين أننا أيضاً قد نعثر عليه، أو أنه بالفعل كان يبحث عن شيء ما بالأساس، وكأنها رحلة اللايقين ما بين بحر وأكثر من جبل، وكأنه “كولومبس” الألفية الثالثة، الساعي لاكتشاف قارّة الآباء والأجداد في الجزائر.
و”الإبحار في الجبال” هو أكثر من مجرد فيلم طريق، لجهةٍ تلامس سينمائياً ذلك النوع السردي المعروف بـ”أدب الرحلات”، فلا خيال في السرد السينمائي القائم على التوثيق هنا أيضاً، إلا من فكرة الرحلة بحد ذاتها، خاصةً حين يصعقنا بكون والده لا يزال على قيد الحياة، دون أن يظهر… يَغيب منذ زمن طال فيُغيَّب! لتحل الأم البرازيلية ممتلكةً ناصية السرد عوضاً عنه، هي التي ربَّته دون والده برازيلياً، قبل أن تُطْلِقه بسرده للبحث عن أشباح والده في الجزائر، التي لفظ فيها، للمرَّة الأولى، اسمَهُ بتهجئة متلعثمة بعض الشيء، عند ضابط الحدود.
من هناك، يلتقي بمجموعة متنوعة من الجزائريين، ويزور الكثير من الأماكن. وكم كان مفاجئاً منظر أولئك اليافعين الذين يتمنّون لو كانت فرنسا لا تزال تستعمر بلادهم، بالإضافة للقائه العابر وغير العابر بعائلات كان يعتقد أن واحدةً منها قد تَمُتُّ بصِلَةِ قرابةٍ له، لكنه في نهاية المطاف، يتمكَّن من العثور على مسقط رأس والده، ويلتقي بأقارب كان يعتقد أنهم افتقدوه منذ زمن طويل كما والده، ليجد أنهم فقدوه، فثمة فارق شاسع ما بين “الفقد” و”الافتقاد”.
يبدو الفيلم كقصة تأمُّل ذات طابع عائلي، تشكَّلت في عمل وثائقي جميل وشفاف، وفريد من نوعه بالأخص من حيث مكوناته على الصعيد التقني، ليس فقط لجهة توظيف أرشيفات تاريخية، بل لكونه أيضاً كان على حالة تماس رقمية مع الصورة المتحركة منها، وحتى الفوتوغرافية التي كان التقاطها ضبابيّاً، على الأقل لحين الالتحام البصري ما بين مشاهد الفيلم الأصيلة وتلك الأفلام العائلية القديمة التي تم التقاطها لوالده في الجزائر.
ومع ذلك فقد نجح كريم عينوز في الحفاظ على بطولة فيلمه، وتحييد أفلام والده دون اغتيالها، فجمع الثقافات والأجيال والقارات معاً، ومزج ما بين أكثر من موسيقى تقليدية وأكثر من نمط حديث، بحيث جعل المشهدية في الوثائقي هذا، تتراقص ما بين “الشاوية” التقليدية في الجزائر، و”الراي”، و”الجاز”، و”الباروك”، و”الهيب هوب”، و”الراب”، و”التانغو” بطبيعة الحال.
وكان مناسباً أن تعمل كل هذه الأنماط معاً للخروج بمُنتَجٍ لا يُنسى، يدور حول الذاكرة، دون أن يتملَّكه الدُّوار، رغم المشاهد المؤثرة ما بين حب وحب، قبل الانفجار البصري الأخير على وقع أغنية (Small Town Boy) لجيمي سومرفيل، المغني وكاتب الأغاني الأسكتلندي، فيجمع الجمهور بعد تشتُّتٍ عايَشَهُ مرافقاً إياه في رحلته الفيلمية هذه، رفقة الكثير من الصور والأفكار والهويَّات والكلمات والذكريات، ودون غرق كامل أو نجاة مؤكدة عند تسلُّق مياه البحر الأبيض المتوسط، أو عند الإبحار في جبال “الأوراس”.