ولدت السينما من رحم المسرح وكانت أفلام جورج ميلييس، كأنها مسرح أو مشاهد مسرحية قصيرة، وفي بداية السينما كان المسرح المنهل والمنبع المهم لعشرات الأفلام، ثم بدأت السينما تبحث عن لغة وأساليب خاصة بها وتوجهت إلى تعدد المنابع وولدت نظريات سينمائية، ثم ظهر النقد السينمائي ولكن المسرح ظل من المنابع المهمة، وكذلك حدثت تأثيرات متبادلة واستفاد المسرح والكتابة المسرحية من السينما، وهذا من المواضيع الهامة ويستحق أن نخصص له دراسة خاصة ومستقلة، وهدفي من هذه المقدمة الصغيرة أن التشابكات بين والمسرح والسينما قد تفشل في حال لم يمتلك المخرج الوعي والتجربة والإبداع، موضوعي في هذه المادة عن فيلم «البائع ـThe Salesman » للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والذي أدهش العالم بعملٍ يعد ربما أجمل أعماله وأستحق عليه وبجدارة الأوسكار.
لسنا هنا مع معالجة محضة وخالصة لمسرحية (مقتلِ البائعٍ المتجوّل) للكاتب الأمريكي آرثر ميلر، ما يحدث في هذا الفيلم ربما يفوق المعالجة، ويمكن تسميته تشابكات مهمة وعصرنة لنص ميلر، ولم يقلد المخرج أو يقتبس من معالجات سينمائية سابقة، بل قام بتأسيس رؤيته مستخدماً اللغة السينمائية وأدواتها الشعرية والبلاغية، ولم يهمل المسرح أي لم تكن مجرد إشارات عابرة ضعيفة وذهب إلى مسرحة الفضاء السينمائي وستجدون تفصيلات بهذه المادة حول هذه النقطة.
برز نجم المخرج الإيراني أصغر فرهادي منذ عام 2002 من خلال كتابته سيناريو فيلم «ارتفاع البريد» والذي اخرجه إبراهيم حاتمي والذي تناول اضطهاد العرب بعد أحداث سبتمبر 2001، وبعد عام واحد تمكن من اخراج فيلمه الروائي الأول الرقص مع الغبار، تم رائعته البديعة فيلم المدينة الجميلة في 2004 ثم في 2006 فيلم الأربعاء الأخير، وفي 2009 حقق منجزاً عالمياً بفيلمه عن إيلي، وفي 2011 تواصلت نجاحاته العالمية بفيلم انفصال نادر، وثم فيلمه «البائع» والذي جائزة نال أوسكار لأفضل فيلم أجنبي بعام 2017.
بداية متوترة
لو تألمنا البداية السريعة واللقطات القصيرة جداً للمسرح وديكور المسرحية وتكرار الإظلام السريع وكأن اللقطات فلاشات سريعة، ومن عتمة المسرح ينطلق أصغر فرهادي إلى عتمة السينما، وبأول لقطة بالمشهد الأول بعد العناوين نرى عماد كأنه يتحرك ويأتي من خلف ستارة تجعلنا نظن أنه بالمسرح لنكتشف أنه في شقته بالمبنى الذي يعيش حدثاً كارثياً.
يبدأ فيلم البائع بمشهد إحدى العمارات المتصدّعة في مدينة العاصمة الإيرانية طهران، نشاهد حالة من الفزع والارتباك والفوضى لأن العمارة سوف تسقط وتنهار في أيّة لحظة. فيما سكّانها يحاولون الهروب من شققهم خوفاً على أنفسهم، الكاميرا المحمولة كأنها إحدى الشخصيات فهي تركّز وتتابع هذا الهلع وتركض ضمن الراكضين، وكأنها هي الأخرى تريد أن تلتقط ما يمكن التقاطه من بؤس وقلق وتخرج بسرعة.
عماد ورنا، زوجان بسيطان من الطّبقة المطحونة والمتوسطة، حيث يعملُ عماد مدرساً للأدب بمدرسة ثانويّة، ويعملُ أيضاً ممثلاً مسرحيَّاً ليلاً مع زوجته رنا ورفاقه في فرقة متواضعة، وفي هذا الوقت بالذات يجهّزون لعرض عملٍ مسرحي يحمل عنوان (مقتلِ البائعٍ المتجوّل)، والحكاية مستلهمة من مسرحيّة عن نص الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميلر.
يقدم أصغر فرهادي، رؤيته العميقة وتحليله للواقع الإيراني عبر تداولات دلالية بعيداً عن الثرثرة والمبالغات، هذه العمارة المكتظة بالسكان البسطاء الآيلة للسقوطِ يتراكضون للخروج ونرى لقطة لجرافة تحفر لتأسيس عمارة جديدة بجوار هذه التي تنهار الآن وذلك الحفر يفاقم من خطر الإنهيار ويهدد حياة الناس، أي ومنذ البداية وفي الكثير من المشاهد نشعر أن المخرج وبلقطة واحدة أو موقف يثير قضايا مجتمعية ونفسية وربما يطرح الأسئلة ويمضي أبعد من الحكاية.
تشوهات مجتمعية
يجد عماد وزوجته سكناً آخر بدعم من صديقهم بابك بالفرقة، وهي شقة صغيرة وحالتها أقل من المتوسط تبدو جدرانها مهترئة، وتحاول رنا إشعال أحد المصابيح الكهربائية فينفجر سريعاً، وكأن هذا الفعل أشبه بدلالة استباقية تنبؤية وتحذيرية، وكثيراً ما نرى مثل هذه المواقف الصغيرة في أفلام الرعب ونفهم بعد ذلك مغزى الدلالة، المستأجر السابق يحتجز غرفة لأغراضه ويبدو أنه يماطل في أخذها، نرى الأصدقاء يساعدون في نقل الأثاث ودعم رنا وعماد، نحن مع شريحة مثقفة ومنسجمة فيما بينها ومتعاونة، يضحكون ويغنون أغاني أجنبية ويمازحون بعضهم البعض.
يُقدم فرهادي هذه الشريحة رجالاً ونساءً، يتدربون ويركضون بالمسرح وهم سعداء بتماسكهم وحبهم لبعضهم البعض، وكأنه يقول قوانين وضع غطاء الرأس للنساء لن يكون عائقاً لممارسة الفن والمسرح، ويبدو إن أحدى الممثلات أم لطفل وتأتي به معها، هذه الشريحة ليست لتقديم عروض استعراضية للربح ونحن مع زوجين متحابين ولا توجد خلافات زوجية.
في الدقيقة 26 تقريباً يبدأ الحدث الذي سيغير مسار الفيلم رأساً على عقب، حين يدق جرس الباب من الأسفل وتفتح رنا وتترك باب الشقة مفتوحاً وتذهب لتغتسل ظناً أن الطارق هو زوجها، لم يصور لنا المخرج ما حدث، مجرد اتساع فتحة الباب ونرى بعض الظلمة، مع عودة عماد نكتشف أن أحدهم اعتدى عليها وتم إسعافها إلى المستشفى.
تكون الصدمة النفسية لرنا قوية وكأن عماد لم يستوعب بعد هذا الحدث، غريب يدخل بيتك ويعتدي على زوجتك وهي تغتسل أي بالطبع عارية، نرى عدة متغيرات بعد عودتها من المستشفى، في مثل هذه الحالة يكون الصمت بينهما، يدير له بظهره، لم نعد نرى ذلك الحب والابتسامات بين الزوجين، شروخات ستكبر لحظة بعد لحظة وهي أخطر وأعمق من شروخات الجدران بمبناهم المنهار، تبدأ هنا مرحلة مهمة، هذا الإنسان السعيد والمحبوب من طلابه ورفاقه وزوجته بالمقام الأول، إنها مرحلة بناء شخصية ستكون مختلفة يلفها الغموض، شيء ما يدور في رأس عماد، رنا أيضاً خائفة ومرتعبة، في لقطة بديعة يصور لنا المخرج رنا بالبالكونة لوحدها، تسند جسدها على الجدار والذي مصاب بتقرحات مشوهة، يدخل الزوج تصاب بالهلع، ترتعد من أبسط خطوة تسمعها.
ذلك المعتدي ربما كان زبوناً للمستأجرة السابقة، التشوهات في جدران الشقة دلالة على تشوهات مجتمعية متعددة، نادراً ما نرى فيلماً إيرانياً يُقدم لنا المجتمع الإيراني مثالياً وأخلاقياً فاضلاً، هو مجتمع إنساني فيه الطيب والشرير، الفاضل والرذيل، فيه ما فيه كغيره من المجتمعات الإنسانية، تهمس أغلب الأفلام بتصريحات وتحليلات للواقع دون مبالغات ولا نفاق للنظام وتمرر رؤيتها في قوالب فنية جمالية صورية يأتي الكلام بدرجة ثانية وربما ثالثة وقد لا يأتي أبداً.
رنا لا تستطيع الأكل ولا النوم وكلما تغمض عينها تعود الأحداث في عقلها، تحكي رنا لزوجها صباح اليوم الثاني جزء من القصة ثم تكمل بالبكاء ونحن علينا أن نبني الأحداث التي وقعت، ترفض رنا أن تذهب إلى الشرطة وتحكي لحفنة ضباط ما حدث.. يسألها زوجها سؤال شك ـ وهل حدث أكثر من ذلك؟
تسارع بالنفي ولكنها لا تحتمل أن تُعيد القصة، وتصر أن تستمر بالعرض المسرحي ولا تتحمل أن تظل لوحدها ولو لدقيقة.
رنا فرهادي ليست ليندا ميلر
في الدقيقة 42 والنصف تقريباً على المسرح، نرى مشهداً من مسرحية ميلر، هنا نشاهد رنا أخرى، رنا أصغر فرهادي، هذه المرأة أو الحطام، تصمت ليس لأنها نسيت الحوار، من ضمن الحوارات
تقول له : ـ لماذا سيضحكون عليك ..
لا تقل على نفسك هذه الأشياء يا ويلي
ـ ويلي.. أنت أوسم رجل في العالم بالنسبة لي.
تقول العبارة الثانية وهي تبكي ثم لا تستطيع أن تُكمل المشهد وتغادر الخشبة باكية.
هنا نحن مع تشابكات، لكن المخرج يقفز بنا إلى أعماق رنا المحطمة وليست ليندا ميلر المتذمرة من وضعها المادي.
بعد ذلك يعود عماد ليسألها عن ماذا حدث لها هناك؟
ليس التعب ولا الإرهاق جعلها عاجزة عن الأداء وإنما نظرة الجمهور إليها، وقد لا تقصد جمهور المسرح والذين عددهم عشرات وإنما نظرة المجتمع، ضحايا العنف من النساء في بلداننا الشرقية يعانون من قسوة مجتمعاتهم وتأويلاته فهو قد ينسى الجاني، ولكن اللوم والذل والمهانات تلتصق بالضحية حتى لو كان مجرد عنف جسدي وليس جنسي، لكن أحداً لا يصدق الضحية عندما تكون امرأة، حتى الزوج تتكاثر في رأسه الأسئلة وتتضخم الشكوك وتحوله لرجلٍ آخر.
تقول رنا لزوجها ولنا أنه لا يمكنها أن تظل وحيدة لوحدها بالبيت ولو لساعةٍ حين يذهب زوجها لعمله، في تلك اللحظة، تنظر رنا إلى الكاميرا أي إلينا، تصارحنا بخوفها وكما نعلم النظرة إلى الكاميرا مفردة سينمائية خطيرة ولو لثانيةٍ وهذه التقنية كما يرأها إنجمار بيرجمان نظرة إرتدادية نكون نحن المتلقين المقصودين، فهي تستشهدنا، تريدنا أن نتأمل ملامح وجهها وبقع الدم وربطة الرأس الطبية والتي أفقدتها جمالها الأنيق، وكأنها الآن تُشبه شخصية ليندا ميلر ولكن دون أن تستعين بقناع أو مكياج، نظراتها مشوشة نوعاً ما وتبدو منكسرة.
تشابكات متناغمة
إذن نحن مع فيلم أكثر تركيباً وعمقاً وليس أكثر غموضاً، كون البعض قد يظن أن تشابكه مع المسرح سوف يجعله ربما نخبوياً وبعيداً عن الواقع الإيراني، ولكنه منذ اللحظة الأولى يكون في قلب هذا المجتمع المتخم بكل الأوجاع والألم، هذا الفيلم يتميز بحواره السينمائي الرشيق للغاية، ويتتابع إيقاعه المتلاحق الديناميكي بلا ترهلات ولا مونولوجات مصطنعة، ويتطور الحوار مع ومن إيقاع الشخصيات المتحاورة في العديد من الأحيان ويأخذ شكل مثلثات تتفجر بالصراعات الدرامية، وكعادته يميل أصغر فرهادي للحركة حتى في أضيق الأماكن فهي لا تعيقه أو تجعله يتجمد.
الحوارات تدور بينهما وكل شخص يبتعد عن الآخر، تارة عماد ينشغل بشيء ويتحرك مبتعداً، يصبح نادراً ما ينظر إليها، هنا وفي مشاهد عديدة يُمسرح المخرج الحركة والحوارات ولا يعني تنازله عن اللغة السينمائية وربما بروحين يتمازجان وتكون التشابكات متناغمة، حدثت الشروخات مما يجعل الزوج يصرخ فيها أنها لا تريده بالليل أن يقترب منها وتريده في النهار ألا يبتعد عنها، في الثلث الأول من الفيلم نسمع لأول مرة صراخه وتذمره.
بعدها نراه نائماً في الفصل الدراسي ويكون مثار سخرية الطلبة، يتحول عماد الفنان والمحبوب لذلك البائع المتجول أي شخصية آرثر ميلر وشخصية ميلر رجل في الستينات من عمره، هذه الحادثة جعلت الزوج والزوجة يشيخان، فالزوج فقد حماسه ونشاطه وهي ذبلت ذبولاً محزناً.
جزئيات مبعثرة
التلاميذ بالفصل الدراسي كأنهم يشبهون أبناء ويلي في مسرحية ميلر، تعامل فرهادي بذكاء وعبقرية في هذه التشابكات كمد وجزر بين رؤيته ورؤية ميلر، شخصية ميلر حطمها المجتمع الرأسمالي فهو موظف بشركة وبعد خدمة طويلة ولأنه فقد رخصة القيادة بسبب ضعف بصره ومشكلة عدم التمميز بين الألوان يستغنون عنه ويتحول لشخصٍ غير مرئي بمجتمعه، هنا عماد يفقد الكثير وكوننا مع فيلم يتميز بالتكثيف والحذوفات وكل الأساليب الشعرية كالتورية والإخفاء فهو لم يكشف ما يقال عن رنا والحادثة، ـ من الصعب جداً قول كل شيء ـ عبارة تقولها ليندا لولديها وهي تتحدث عن زوجها حيث بدت قلة الاحترام والسخرية من والديها، أصغر فرهادي تفنن أنه لم يقل كل شيء وخرج من جلباب ميلر ليخلق لنفسه معطفه الخاص يعالج بفيلمه تشوهات وأمراض مجتمعه ولا يعيد يحكي لنا عملاً حدث بمجتمع آخر وقبل عقودٍ كثيرة، ربما أن ميلر حلل بذكاء أمراض المجتمع الأمريكي ومادية الغرب والتي ما تزال مستمرة، وقد فهم فرهادي الدرس ليحيك إبداعه لمجتمعه وعن مجتمعه ليكون أسطورة أو على الأقل قصيدة تحيا لعدة عقود.
لا شيء على ما يرام في البيت والمسرح وحتى المجتمع، عندما نتعرض لصدمةٍ ما ندرك بعدها أين وكيف ومع من نعيش، تقول رنا للطفل والذي دفعه الفضول ليسألها لماذا لا تمثل؟
تخبره أنها متعبة، يسألها لم تأتي إذن؟
ترد بأنها ملّت من البيت، وترحب به أن يأتي معها.
أم الطفل تُخبرنا أن كل الأشخاص على المسرح يخطئون الليلة.
الارتبكات بدأت تظهر تأثيراتها، وفي الثلث الثالث الأخير من الفيلم يردد عماد متوعداً أن يجب أن يعثر على المعتدي اللعين، خصوصاً وأنه أخذ شاحنته، يرتبك عماد وهو يقود السيارة، تهتز رنا وهي تجلس بجواره، هذه الاهتزازات بداية لاهتزازات أكثر عنفاً، تفجرت بدواخله غريزة الانتقام ونكون قد بدأنا نُصدق رواية رنا حيث نفت أي اعتداء جنسي عليها وبدأت بالرغبة من الخروج وتجاوز الأزمة، لكن الزوج يكون متغيراً من الداخل، بركان الغضب يسخن ثم يثور ويترجم الوجه عبر تعابيره ما يحدث بالداخل.
يراود الشك عماد حول صديقه باباك وربما كان باباك أحد زبائن المومس التي كانت المستأجرة السابقة، عبر نص ميلر، ينعت عماد صديقه بالمنحرف، وأخيراً يعرف عنوان المعتدي وثم يكتشف أن المعتدي رجل كبير بالسن ومصاب بمرض القلب.
تتحول شقة عماد إلى مسرحٍ أكثر تعقيداً من ذلك المسرح الذي تُعرض عليه مسرحية ميلر، يعترف العجوز بخطأه ويطلب المسامحة، يريد عماد أن يفضحه أمام عائلته، يصاب الرجل بأزمة ويسارع عماد وبمساعدة رنا من أجل إنقاذه، تسامحه رنا وتطلب من عماد ألا يفضحه، ينهض الرجل لكن عماد ينفرد به ويصفعه ثم يسلمه كيساً صغيراً رُبما فيه ما يفضح الرجل، ينهار مرة أخرى ولا ندري هل مات أم لا؟
هذا الرجل المريض كان يعمل بائعاً وهذا ما نستكشفه في الدقائق الأخيرة من الفيلم، أي عنوان الفيلم ليس مأخوذاً من عنوان مسرحية ميلر، الدهشة هنا أن أصغر فرهادي، ربما يكون أضاف للمسرحية أكثر مما أخذ منها، فقد خلق عملاً إبداعياً فيه الكثير من الصدمات، هنا المرأة تُسامح وتغفر وذهبت رنا تغترف الماء في كفيها لتنقذ العجوز المعتدي عندما وقع مغشياً عليه، عماد والذي خلقت منه الحادثة شخصاً آخر، لم يسامح وليته أكتفى بالصفعة ولكن ذلك الكيس البلاستيكي الصغير كأنه الضربة القاضية، الفضيحة أمام الأهل والأصهار أكبر من ألف صفعة ولذلك تختلت رنا عن عماد، رُغم تأكده أن العجوز لم يعتدي جنسياً على زوجته وتوسل إليه الرجل وحتى رنا سامحت وتوسلت من عماد أن يتركه لحاله، إذن تتسع التشققات والتصدعات وإلى آخر لقطة كانت بالمسرح، لينتهي الفيلم بمكياج المسرحية وملابسها وأقنعتها، وكأن المخرج يطلق صفارة إنذار ويقول نحن لسنا مجتمعاً مثالياً وفينا ما فينا من العيوب والتشوهات، من القبح والأخطاء والقسوة ولا شيء على مايرام هنا.
مشاهد داخل المسرح
يوجد أكثر من تسعة مشاهد صورت بالمسرح ولم يكن الحديث فقط عن المسرح أو مسرحية ميلر، كانت قصة رنا وحوارات بين أفراد الفرقة تمس حياتهم الخاصة حتى الطفل الصغير الذي يرافق أمه المطلقة فهو يشارك بالحوار، ورغم أننا لم نعرف حكاياتهم جميعاً إلا أننا لا نشعر بتهميش مطلق للشخصيات الفاعلة، كأن المخرج يهمس لنا وفينا أن المسرح كالسينما لا يمكنه أن ينفصل عن الواقع ويغرد في مثاليات متخيلة، وأن كل الفنون ليس مهمتها النقل والتصوير الشكلي الساذج وهي تتشابك فيما بينها ومع الواقع من أجل تحليله والغوص في عمقه وروحه، وهذا ما يحدث في هذا الفيلم، وكذلك نظرة تحليلية عن الفنان والمثقف فلا أحد هنا منزهاً وفاضلاً ولا توجد فضيلة كاملة ومطلقة، حيث اكتشفنا أن صديقهم باباك كان يواعد ويزور المرأة المشبوهة مثله مثل أي زبون، وتكون صدمتنا في عماد أكبر حيث يُعجل بموت البائع المتجول ولم يسمع رسالة التسامح، وكما ذكرنا ونؤكد أن ذلك الكيس الصغير الذي يحوي فضيحة البائع كان أعنف من مئة رصاصة وألف صفعة، عماد وغيره وكل من يعيش بمجتمعات تغلي بالألم وتتضخم مشاكلها فينصهر الفرد في الفقر والجوع والفوضى ويصبح جزءً من هذه الفوضى، ولا يمكن أن تغطي الزخرفات الكاذبة لوسائل الاعلام الرسمي لهذه الأنظمة كل هذه التشوهات، لآنها أصبحت تنال من روح كل فرد بما فيهم المثقف والفنان والكاتب والشاعر، رنا نأت بنفسها عن الإنتقام وغفرت للرجل العجوز المعتدي وتأكدنا أنه لم ينل من جسدها ولم يغتصبها، ورغم فظاعة جريمته وهي جريمة بشعة ولا يمكن التهوين منها، ولكن رنا صاحبة الحق الأول أشفققت على الرجل وخاصة أن عماد قام بحبسه وتهديده، ورُبما شعرت رنا أن ما فعله عماد كافياً ولكن عماد لم يكتفي إلى أن تسبب بموت البائع المتجول.
ليست مجرد مسرحية
موت بائع متجول ليست مجرد مسرحية لا تنبع أهميتها كونها مسرحية مشهورة وتُرجمت إلى عشرات اللغات العالمية، ربما ما يشد بعض الفنانين فيها انتقادها وفضحها المبكر للحلم الأمريكي، وصدامها الصادق مع مأساة الفرد في ظل هيمنة المادي وضياع الروحي وفيها مكاشفات ناقدة حول اشكاليات اجتماعية عميقة، هنا فرهادي أيضاً يكاشف مجتمعه دون خوف من النظام، ولا يعني هنا جلد الذات من أجل جوائز بمهرجانات غربية أو بحثاً عن الشهرة، فهو محب لمجتمعه ويدعوه أن يتصالح فيه الفرد مع نفسه، رنا هي الجانب المشرق والنموذج و ربما البعض قد يرفض تسامحها مع المتحرش، إذن المخرج لم يكن سوداوياً ولم يكن خيالياً ليقدم لنا مجتمعاً فاضلاً، كما لا يمكن أن ننسى أن الكاتب المسرحي آرثر ميلر كان مناضلاً وملاحقاً من السلطات الأمريكية بسبب مواقفه السياسية والاجتماعية ونصرته لحقوق الانسان، وكانت كل أعماله تنطلق من أعماق المجتمع وحتى الأعماق السوداء المظلمة فهو لم يتورع في كشفها، حيث دعى إلى الحوار بين الأجيال، وكل هذا دفع بالسلطات لمحاربة فنه وأفكاره بتهمة الشيوعية، ورغم ذلك بزغ نجم ميلر عالمياً وهنا أصغر فرهادي يتشابه معه، لأن فرهادي ليس أبن أي نظام وهو وغيره من المخرجين والمخرجات يتم منعهم وملاحقهم وزرع كل العوائق والصعوبات، ومع ذلك يخرج كل عام مجموعة ولو قليلة من الأفلام الإيرانية تهزم الجغرافيا وسلطة الرقيب وتحلق عالمياً، وتجد حفاوة النقاد والجمهور المتعطش لهذه النوعية من الأفلام التي تمتاز بشعرية سينمائية جذابة، وهي أيضاً تستقرأ بصدق المجتمع الإيراني وتُحدث الكثير من الجدل داخل وخارج إيران.
خاتمة ضرورية
نلاحظ أن رنا تعرضت للعنف بعد عودتها من المسرح وحتى إن لم يكن هجوماً مقصوداً لأنها ممثلة مسرحية، إلا أنه يسلط الضوء على ما تعانيه المرأة التي تعمل في هذه المجالات، وقد يكون عنفاً من السلطة أو أناس عادين ضحايا التعبئة الاعلامية المستمرة ضد نوعية من الفنون التي تحمل رؤية تتعارض مع النظام.
الفيلم أيضاً يميل إلى الوثائقي عن مدينة متعبة ومرهقة وفي حالة تحولات حيث يفقد سكانها اتجاهاتهم، ويتطورون في أحياء بها مواقع بناء لا نهاية لها ومباني قديمة مهدمة ومباني قيد الإنشاء، ويسيرون نحو عالم حضري مادي عصري يشبه ما يحدث في الغرب تتهاوى فيه الروح وتفقد إنسانيتها واللذة في الحياة، طهران اليوم تكاد تشبه وتتقارب من نيويورك، كما وصفها آرثر ميلر في بداية المسرحية. مدينة يتغير وجهها وروحها بوتيرة هذيان، يتم تدمير كل ما هو قديم من بساتين وحدائق وأسواق ومباني، لتحل محلها الأبراج العالية الفارغة من الجمال المعماري.
هذا الفيلم، حيث التركيز على تعقيدات العلاقات الإنسانية، من خلال ما نشاهده نكسات مدمرة يواجهها عماد ورنا، أصغر فرهادي، يتميز كمخرج وقبلها فهو كاتب سيناريو وكاتب حواري مبدع، قادر على التقاط تناقضات المشاعر والإزدواجية لدى أبطاله وبطلاته فلكل شخصية حقيقتها المنفردة والخاصة، وفيها من الخير والشر وتمر بمنعطفات ومتغيرات تحولية ولا تظل ثابتة.
لعل المدهش أيضاً أن المخرج يتمتع بموهبة جيدة في معرفة كيفية الشروع والزج في الصراعات ويبدو كأن لا صوت له فيها، أبطاله بالتأكيد يحملون وجعه وأفكاره وشكوكه وحتى خيباته ومخاوفه.
رمزيات ودلالات أصغر فرهادي ليست فقط محصورة للجانب الاجتماعي، هنا اهتزار المبني يمكننا أن نفهمه أنه دلالة على تفكك الحب بين الزوجين، يظل للجانب العاطفي أهميته، ونراه كأنه يحاول دعم هذا الحب ولكن هذه الاهتزازات الاجتماعية الخطيرة تُسارع بهدمه أو اضعافه.
يستمر المخرج أصغر فرهادي بخوض تجارب مدهشة ومثيرة حيث أخرج فيلمه الأسباني(الجميع يعرف) في 2018 بقرية أسبانية عندما تعرض لمضايقات وصعوبات داخل بلده، ثم قدم فيلمه الأخير (البطل) عام 2021 والذي صوره أثناء جائحة كورونا وفي ظل الرعب العالمي من الوباء.
فرهادي في كل تجربة يخوضها دائم البحث عن الجوانب المظلمة للروح الإنسانية، أي للفرد والمجتمع، وأعماله كما في هذا الفيلم تدور في المسرح والبيت والمدرسة والشارع، ولكن تركيزه ربما أكثر هنا على البيت والمسرح إن اعتبرنا أن المسرح وجه المدينة المشرق، ويركز على التعمق بشخصيات مثقفة وهي قد تنجرف وتتصدع وتكون عرضة للشك والحيرة أو قد تناقض نفسها وتتبنى عادات وتقاليد بالية مثل الانتقام من أجل الشرف كما حدث في هذا الفيلم، لم يكن فرهادي ناسخاً لآرثر ميلر بل يبدو كأنه مناقشاً يتعانق ويتشابك ويضيف لنص ميلر.