دبي ـ «سينماتوغراف»
ألهمت الأوضاع الصعبة التي يعيشها لبنان ومحاولات الشباب للهروب من الواقع ومن المصير الجماعي المؤلم، مخرجين شبّانا على تناول المشاهد اليومية ومعاناة المحيطين بهم في أعمال سينمائية روائية كانت أو وثائقية هدفها الأول أن تكون صوتا للآخر الذي هو جزء من الأنا الجماعية.
من هذه الفكرة، جاء فيلم “البحر أمامكم” للمخرج اللبناني الشاب إيلي داغر، الذي عرض مؤخرا في عدد من الدول العربية وهو أيضا من تأليف داغر في أولى تجاربه الروائية الطويلة، ويشارك في بطولته منال عيسى، يارا أبوحيدر، ربيع الزهر وروجيه عازار.
ويعدّ الفيلم لسان حال لبنان واللبنانيين خاصة خلال العقد الماضي، إذ يتناول الأحداث التي يعيشها البلد منذ عقود وتتفاقم بمعظم اللبنانيين لحالة ذهنية متأرجحة إلى درجة فقدان الرؤية، والابتعاد التدريجي عن الواقع، وكذلك الاغتراب الذي دفع أغلب اللبنانيين إلى الهجرة خارج بلادهم، في حين أصبحت النسبة الأخرى ممن تشبثوا بالبقاء داخل أرض الوطن يشعرون بالاغتراب داخل لبنان.
والفيلم يحكي قصة فتاة شابة “جنى” التي تعود إلى بيت أهلها في منتصف الليل تاركة ورائها ماضيا سيئا في باريس. وتلاحقها ضغوط التأقلم مع الأسرة من جديد، كما يثقل عليها الكشف عن تفاصيل حياتها خارج لبنان. ومع شعورها بأنها محاصرة يظهر قلقها مرة أخرى، مما يدفعها إلى أن تُحيي روابطها وتجد الأمان في جزء مختلف من حياتها في بيروت كانت قد هجرته منذ وقت طويل، في حياة انصهرت فيها مشاعر الألفة والغربة معا في آن واحد.
والاغتراب الذي يتناوله إيلي في “البحر أمامكم” لا يقصد به الهجرة إذ أن أكثر من 70 في المئة من اللبنانيين يعيشون في الخارج، لكنه اختار الاغتراب الاجتماعي، بأن يشعر الموجودون في لبنان بالانفصال عن القيم والمعايير والممارسات والعلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد مجتمعهم.
ويحاول داغر من خلال شخصية جنى المحورية في الفيلم، قول كل شيء، لكنها تتعب المشاهد ليفهم ما تقوله، فهي ككل اللبنانيين متأرجحة بين الكثير من الثنائيات المتضادة، وهي مشتتة بين الانتماء واللاانتماء، بين الانصهار في المجموعة أو التفرّد بذاتها، وهي دائما ضائعة بين البقاء في بلدها الذي تحب أو الرحيل عنه.
ولا يصور “البحر أمامكم” بيروت بعد كارثة انفجار المرفأ التي وقعت في أغسطس من عام 2020 وإنما يصور بشاعة المشاهد التي سبقت تلك الحادثة، ويقدم العاصمة كمدينة أشباح في انتظار الأسوأ، لكن ظهر للعلن بعد التفجير فكان فيلما عن الركود الاقتصادي والمعاناة اليومية المستمرة إلى اليوم، ولم يفصله الكثير من المشاهدين والنقاد عمّا حصل ويحصل في لبنان بشكل يومي، إذ يمكن القول إنه فيلم وجودي بامتياز.
وتظهر لقطات الفيلم الحياة في لبنان كما لو أنها متجمدة أو تدور في دوامة مفرغة، يهيمن عليها الركود، فلا تقدم للناظر شيئا سوى الفراغ والعبث، وتجعله ينتظر الآتي فالفيلم يبعث في المتلقي إحساسا بالترقب للغد أو لعنصر المفاجأة ولتغيير لا مفرّ منه، الذي كان تغييرا نحو الأسوأ.
وعرض هذا الفيلم الروائي الطويل في سينما عقيل بالإمارات، طوال الأسبوع الأول من شهر أبريل الجاري بحضور المخرج إيلي داغر، بعد أن استأنف الفيلم عروضه حول العالم العربي، إذ انطلق مؤخرا في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في المملكة العربية السعودية.
يذكر أن سينما عقيل هي منصة سينمائية مستقلة، تستقدم أفلاما نوعية من كل أنحاء العالم لجمهور الإمارات، من خلال عرض أفلام خالدة ونماذج جيدة من تاريخ السينما، وتهدف سينما عقيل إلى أن تزيد المعرفة والاهتمام بفن السينما.
وشهد فيلم “البحر أمامكم” عرضه العالمي الأول في الدورة الـ74 من مهرجان كان السينمائي الدولي، ضمن برنامج نصف شهر المخرجين، ومشروع الفيلم كان قد حصد العديد من الجوائز منها أفضل فيلم في ورشة فاينال كات من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وجائزة منصة الجونة ضمن المشاريع في مرحلة التطوير وجائزة مالية من مؤسسة دروسوس، كما فاز بمنحة من مؤسسة الدوحة للأفلام والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، وصندوق البحر الأحمر لدعم الأفلام وغيرها.
وإيلي داغر مخرج وكاتب ولد ونشأ في لبنان، وحصل على شهادة الماجيستير في دراسات الإعلام الجديد والفنون المعاصرة من جامعة جولدسميثز في لندن. ويتناول في أعماله العلاقات والاحتمالات الناشئة من جرّاء تقاطع الحضارات، والتاريخ، والخيال.
وفيلم “البحر أمامكم” هو أول فيلم روائي طويل لداغر، إلا أنه سبق وحصل على السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير من مهرجان كان السينمائي قبل 6 سنوات، ليكون أول مخرج عربي يفوز بتلك الجائزة، وهذا قبل أن يُتمّ عامه الثلاثين.
وتتغلف أعمال إيلي بفلسفة الاغتراب والبحث في أبعادها ففي فيلمه القصير “موج 98” يحكي أيضا قصة طالب في المدرسة يدعى عمر ويعيش في الضاحية الشمالية لبيروت ويعاني في محيطه الاجتماعي.
ويتبنى داغر هذه الفلسفة وهذا البحث في مفهوم الاغتراب حتى قبل أن يبدأ الاحتراف الفعلي للإخراج السينمائي، حيث كانت أطروحته التي قدمها حين كان يدرس في مدرسة للفنون بلندن تبحث في هذه التيمة، والتي اختارها لتركز على العلاقة بين التاريخ والذاكرة والأرشيف في بناء الهوية، وهو ما شكّله لاحقا في أعماله.
ويقول المخرج في أغلب تصريحات الصحافية إنه يتناول في أعماله السينمائية العلاقات والاحتمالات الناشئة من جرّاء تقاطع الحضارات، والتاريخ، والخيال، مستخدما وسائط مختلفة، كما يقوم بإنتاج أعمال متشابكة على مستويات مختلفة.