«سينماتوغراف» ـ شريف صالح
يستثمر عنوان فيلم “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” للمخرج أحمد الجندي، نجاح فيلم كوميدي شهير بعنوان “البعض يذهب للمأذون مرتين”، فهو استعادة تامة للعنوان، منفيًا، كأنه معارضة له.
كما يستثمر في موضوعه “هموم الزواج”؟ ما الذي يحدث للرجل والمرأة بعد أن يجمعهما “القفص الذهبي”؟
كريم عبد العزيز يلعب دور خالد مختار مذيع تلفزيوني صاحب برنامج “من الآخر”، مغرم بتقمص الشخصيات والتصوير الحي في أماكن خطرة، حيث نراه منذ المشهد الأول في “وكر” لتجارة المخدرات.
في المشهد الثاني تظهر الممثلة دينا الشربيني “الدكتورة ثريا الببلاوي” ـ مع موسيقى ناعمة، وتقدم نفسها باعتبارها أخصائية العلاقات الزوجية.
لا ينطوي مشهدا الافتتاح على التعريف بالشخصيتين الرئيستين فحسب، بل ثمة انحياز واضح لإظهار الزوج “خالد” بصفته المرح، المغامر، الناجح والذكي جدًا.
بينما “ثريا” بنظارتها وجلستها بمفردها، وتلقيها اتصالات خاطئة، أقرب إلى نمط ساخر من المعالجين النفسيين، فكيف تمنح الثقة للآخرين وهلا لا تثق بقدراتها؟ وكثيرًا ما تسأل زوجها (الخبير) هل الأفضل أن تنطق اسمها “ثريا” بإخراج لسانها في الثاء أم لا؟
يستمرّ التحكم الذكوري المعبر عن بنية الوعي الشرقي طوال الفيلم، وفي الوقت نفسه يكرر ما استقر لعقود في السينما المصرية، فالبطل غالبًا ذكر بالغ عاقل وسيم ومرح، والبطلة مجرد وجه جميل سنيد له. هو من يبيع في شباك التذاكر، ومن يظهر في معظم اللقطات، ومن يحرك الأحداث، ويعلم الصواب.
لا مجال لأن يُعاقب ويحاسب، فالكارثة القومية التي حدثت لقاعدة البيانات تسبب فيها “المذيع” ولم يوجه أحد اللوم له، و”السنجابي” السفاح يقتل ويعدم ويعذب ولا أحد يحاسبه، وبهنسي المزواج يعيش عيشة لا يحلم بها شهريار، والمحامي الفاسد “أنيس” لا توجد نقابة تردعه.. إلخ.
ولا يُتوقع من فيلم عربي هزلي يناقش “هواجس الزواج” أن يقدم جديدًا حول طبيعة الأدوار التقليدية للرجل والمرأة.
مع تراث كبير من الضحك المصري، ليس من السهل العثور على “أفيهات” جديدة، فكثيرًا ما يُعاد تدوير ما سبق ذكره في أفلام ومسرحيات قديمة. أو يكافح صنّاع العمل في بناء موقف مفتعل لاستدرار الضحك، فمثلًا يجرح “خالد” شعور زوجته بأنها معالجة فاشلة ولا يتصل بها أحد، باستثناء زبائن مطعم نتيجة تشابه رقم هاتفها مع المطعم. ثم فجأة يتصل شخص ويتحدث معها بجدية ويكلمها بوصفها “الدكتورة ثريا”.. ويحكي لها عن مشكلته مع “أم علي”، لكي نصل في النهاية أنه يقصد الحلوى.
هذا ما يسمى كوميديا الموقف، المفترض أنها أفضل فنيًا ودراميًا من الكوميديا اللفظية القائمة على “النكتة”، لكن الموقف نفسه شديد الافتعال، لأن من يتصل بمطعم لا يبدأ الكلام هكذا، ولا يتحدث ببساطة مع “دكتورة”، دون أن ينتبه كلا الطرفين للخطأ.
ولن تستمر الدكتورة في الكلام ببلاهة معه متصورة أنه يتحدث عن زوجته “أم علي”. والأهم من ذلك أن “الأفيه محروق” ومتوقع منذ بداية المكالمة.
وعندما تكون “ثريا” في سهرة عيد زواجها في أحد المطاعم الراقية، وتدعي أنها تعرفت على “خالد” هنا قبل خمس سنوات، يظهر خلفها عامل المطعم ويكذبها ببساطة أمام أصدقائها بأن المطعم تم افتتاحه قبل عامين فقط. فأي عامل راق هذا الذي يكذب زبائنه علنًا هكذا ويحرجهم؟
محاولة أخرى لبناء مواقف مفتعلة، لإظهار تفاهة وسطحية وادعاء المعالجة النفسية، وأيضًا من صحح لها رجل أقل منها اجتماعيًا وثقافيًا.
بالمنطق ذاته الخاص بتوليد “الأفيهات” تم ضخ مجموعة كبيرة من المشاهد بمشاركة ضيوف شرف، أقرب إلى “الحشو الدرامي” لضمان الاقتراب من مئة دقيقة لحكاية ليس بها ما يكفي من التفاصيل ولا الصراعات التي تستند عليها. فمشهد الاستهلال في وكر تاجر المخدرات ليس له قيمة درامية أكثر من التعريف بالبطل، وكذلك مشهد الظهور الشرفي للمطرب مصطفى قمر في المحكمة مع طليقته، أقرب إلى وصلة دعاية لأغانيه، ولا نراه مرة أخرى.
وهناك مقطع كامل يستغرق حوالي خمس عشرة دقيقة فقط من أجل مصالحة “السنجابي” (الممثل عمرو عبد الجليل) على زوجته المتأثرة بأفكار الدكتورة ثريا. الغريب أنه هذا المقطع بكل ما فيه من مط يأتي في الجزء الأخير من الفيلم، الذي من المفترض أنه يجمع خيوط الحكاية ويتصاعد بها دراميًا.
لا يوجد مبرر درامي مقنع لذهاب المذيع “خالد” وشقيق زوجته “المحامي أنيس” (الممثل ماجد الكدواني) في هذه الرحلة “السياحية” إلى بيت السنجابي في الصعيد. ولو حذفنا المقطع كاملًا لن يتأثر البناء.
وهذا ينطبق على معظم مقاطع الممثلين ضيوف الشرف مثل بيومي فؤاد، وربما الاستثناء الوحيد دور الممثل محمد ثروت المزواج الذي يعيش مغامرات مرحة مع نسائه، ولا يتوقف عن الاستخفاف بفعلي الزواج والطلاق، ويظهر في أماكن مختلفة أمام المذيع، وكأنه يستفزه بسلوكه الذي لا يتسم بأي قدر من الجدية وتحمل المسؤولية. وكانت شخصيته قابلة للتطوير لتكون ندًا للبطل نفسه.
سلسلة المقاطع (الحشو) أقرب لاسكتشات تناسب المسرح الهزلي، لكنها بعيدة عن لغة السينما.
كما أنها أثرت سلبًا على الحبكة ـ إذا اعتبرنا أن هناك حبكة ـ والتي اعتمدت على تسبب المذيع في انهيار المنظومة الإلكترونية لعقود الزواج، ومن ثم بات جميع المتزوجين.. “مطلقين”.
عقدة بالغة الهشاشة، فأولًا لا توجد علاقة بين إجراء مكالمة في غرفة وانهيار قاعدة بيانات واسعة، ومن المفترض أنها مؤمنة وتتوفر لها نسخة احتياطية. والفيلم نفسه لا يشرح لنا كيف تؤثر “مكالمة” على ضياع بيانات! المهم أن نصدق كمشاهدين ما يريد لنا المؤلف أيمن وتار، أن نصدقه.
وفرضًا انهارت قاعدة بيانات المتزوجين، هذا لا يعني وقوع الطلاق تلقائيًا، لأن قاعدة البيانات، مجرد “توثيق” وليست شرطًا في صحة الزواج ولا الطلاق حسب الشريعة، لأنه علاقة قائمة على الموافقة والإشهار. بمعنى أن الوثيقة الإلكترونية ليست ركنًا في صحة الزواج.. فكيف يؤدي ضياعها لانهياره؟ هذا غير مهم، طالما أراد المؤلف ذلك.
هناك مقارنتان يفرضهما الفيلم، الأولى مع فيلم “نادي الرجال السري” لنفس المؤلف ومعظم فريق التمثيل، ويعالج الفكرة نفسها تقريبًا. ومن الواضح أن “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” خطوة إلى الوراء، وإخفاق في استثمار الفيلم المشار إليه.
المقارنة الأخرى مع فيلم السبعينيات الذي شارك فيه كريم عبد العزيز طفلًا وكان من إخراج والده محمد عبد العزيز. ثم قرر أن يستثمر في العنوان والفكرة العامة مجددًا.
الفيلم الأصلي اعتمد على بطولة جماعية لعادل إمام ونور الشريف وسمير غانم وميرفت أمين ولبلبة، ومعالجة جيدة للقصة والحوار، مررتْ مختلف الأفكار وفقًا لكل شخصية، وبات الفيلم علامة في تاريخ الكوميديا الاجتماعية.
أما الجديد، فهو مصمم على مقاس كريم عبد العزيز وحده، ولا يناقش شيئًا بجدية، بل بعد سلسلة مقاطع هزلية، واستخفاف بفكرة الطلاق، وفكرة المعالج النفسي، اضطر صناعه لصياغة رسالة وعظية طيبة عند النهاية. فما عجز الفيلم عن إقناعنا به ـ عبر دراما ملفقة ـ ألقاه علينا في صورة محاضرة تنمية بشرية.