«كان» ـ سينماتوغراف: مها عبد العظيم
دخلت الأفلام الفرنسية السباق نحو السعفة الذهبية في مهرجان كان2016، واشترك اثنان منها وهي «البقاء قائما» لآلان غيرودي و«صغيرتي» لبرونو دومان في رسم لوحات اجتماعية تتميز بروح هزلية عالية وبالتطرق لمسائل الجنس المعقدة.
تتنافس أربعة أفلام فرنسية في الدورة الـ69 لمهرجان كان في المسابقة الرسمية، عرض منها حتى الآن فيلمان، وسرعان ما التفتت الكروازيت -التي ألهبها لوهلة صعود جوليا روبيرتس مدرج قصر المهرجانات عارية القدمين وخبر مغادرة زلاتان إبراهيموفيتش نادي باريس سان جرمان- إلى هذين الفيلمين لما ورد فيهما من أخبار الجنس مع ديناميكية هزلية.
تدور أحداث فيلم «صغيرتي» في صيف 1910 حيث تغزو البلبلة والفزع منطقة سلاك شمال فرنسا بعد اختفاء غامض للعديد من الأشخاص. وسريعا ما يجد المحققان نفسيهما أمام قصة حب غريبة بين «صغيرتي» وهو الابن البكر لعائلة صيادين ذات الأخلاق المشبوهة، وبيلي وهو من عائلة فان بتنغام البورجوازية. و«صغيرتي» (مالوت – ma loute) هو اسم الفتى الذي يتشبه بفتاة، أما بيلي فهو فتى لكنه يشبه كثيرا البنات.
يقع بيلي في حب «مالوت»، ومع هذه القصة يحمل برونو دومان الهزل إلى أعلى القمم. فيقول المخرج إنه يختبر في الفيلم العودة إلى جذور السينما وهي المسرحيات الهزلية التي تزعزع عالم البورجوازية وثقافتها. وإلى جانب شخصيات لوريل وهاردي المضحكة الشهيرة، يستلهم برونو دومان عمله من الكوميديا الإيطالية وخصوصا أفلام «دينو ريزي» أو «إيتوري سكولا».
وبعدسة كاريكاتورية إلى أقصى الدرجات، اختار دومان للتهكم من البورجوازية جمع العديد من الشخصيات التي تمثل «بورجوازية التمثيل» في فرنسا على غرار فابريس لوكيني وجولييت بينوش وفاليريا بروني تدسكي الذين تجاوبوا مع اللعبة.
وقالت جولييت بينوش عن هذا الفيلم إن دومان «كان قبل التصوير متخوفا قليلا من درجة الهزل التي سنصلها بعد أن ذهبنا بعيدا في الأسلوب الدرامي مع كاميل»، وكانت بينوش بطلة دومان في فيلم «كاميل» عن النحاتة كاميل كلوديل عشيقة غوستاف رودان وبالخصوص فترة حجزها في مستشفى الأمراض العقلية.
فمن النقيض إلى النقيض، أكدت بينوش أن تصوير «صغيرتي» استدعى من دومان أن «يدفعها أحيانا إلى خلق توترات داخل العائلة، وخلق الحيرة والجنون فهي عائلة ذات قصة معقدة جدا بسبب المسكوت عنه داخلها».
وأكد دومان الذي سبق وأن أحرز الجائزة الكبرى لمهرجان كان عام 1999عن فيلمه «الإنسانية»، أنه حاول توليد الضحك من الأسوأ عبر مزج عناصر متنافرة عبر حبكة عاطفية وعلاقات مشبوهة جنسيا، أضاف لها التحقيق البوليسي عمق التشويق والغموض. فصاغ المخرج لوحته الاجتماعية الساخرة عبر عدسة الخيال المكبرة.
أما فيلم «البقاء قائما» لآلان غيرودي صاحب فيلم «مجهول البحيرة» الذي لاقى احتفاء كبيرا وصدى جيدا في مهرجان كان العام 2013 حيث شارك في قسم «نظرة خاصة» ضمن الاختيارات الرسمية، لم يهز الكروازيت هذه السنة بنفس الحماسة.
ففي «البقاء قائما» تبحث شخصية المخرج ليو عن ذئب في منطقة لوزير حين يلتقي راعية الماشية ماري. ينجبان طفلا وبعد أشهر تفقد ماري ثقتها في ليو فتترك الرضيع ووالده. يعتني ليو بالطفل لكن البؤس ينهكه فيعود إلى لوزير.
وإن كان «مجهول البحيرة» قد أثار الصدمة عبر تصوير ممارسة غير مركبة للجنس بين الممثلين، وهو يتناول قصص لقاءات بين مثليي الجنس في مكان يرتاده هؤلاء قرب البحيرة، فلم يخل «البقاء قائما» من مشاهد إباحية حتى أنه ليس من المبالغ لو سميناه «البقاء منتصبا». ويقول غيرودي إن «مسألة الجنس حيرتني عبر السنين على غرار العديد، لكن وجدتها مبهرة ومخيفة، وهو المثير في الأمر! ».
ومع بحثه عن الذئب، يبحث المخرج خصوصا عن مصدر إلهام لفيلمه المقبل، فيعبر الحقول والمدن الصغيرة في سبر لأغوار فرنسا الفقيرة، فرنسا مربي الماشية والعاطلين عن العمل والآباء الذين يربون أطفالهم بمفردهم. فإلى جانب الجنس هناك بعدان آخران يتطرق إليهما الفيلم، الأول سياسي اجتماعي فيه كسر للأحكام المسبقة فالأم هي التي تترك العائلة وليس الأب، والثاني ديني إنجيلي إذ يفقد ليو كل شيء ويسلبه مشردون كل ما يملك لكن يبقى رغم ذلك «صامدا». ويلتقي ليو بالعديد من الشخصيات التي تعود في كل مرة في ظروف ولحظات مختلفة من الفيلم لتربط الحكايات الصغيرة ببعضها.
على غرار فيلم دومان فإن فيلم غيرودي يشكل نسيجا فكاهيا كثيفا ومرحا، تصل فيه العبثية حد الفوضى إلى درجة أن بعض النقاد شبهوه بالـ «ماخور»، وبلغ الفيلم ذروة الشاعرية والجنون في مشهد يمارس فيه رجل عجوز الجنس على وقع موسيقى روك «بينك فلويد». والرواية تحمل روح الفكاهة السوداء الباردة كما في أفلام جاك تاتي وأيضا عدسة بورنوغرافيا الهواة، فرغم المواقف الهزلية تبقى الحبكة السينمائية على غاية من الذكاء.