«سينماتوغراف» ـ منى حسين
الحياة في “الحارة” لا تشبه الحياة في أي مكان آخر من العالم، فهي وإن كانت مرآة لحياة تقليدية ولنمط قديم من التجمعات البشرية، إلا أنها تمتلك ميزات وسلبيات تجعل الحياة فيها مختلفة عن العيش في المجمعات السكنية الحديثة.
وفي الحارة، تنعدم الخصوصية بشكل كبير، فلا يمتلك الإنسان حريته المطلقة، وإنما يكبر ويعيش وفق نواميس محيطه وما يفرضه عليه من ضوابط وممنوعات ومحرمات.
وفي الحارة أيضاً، يكون الحب فعلا مستنكراً، يبحث عنه الجميع خفية لكنهم يرفضونه علنا فيحاربون المتحابين ويلاحقونهم في الأزقة والأنهج الضيقة.
انطلاقا من هذه الفكرة العامة، وجد فيلم “الحارة” الأردني، للمخرج الأردني باسم الغندور، وهو فيلم يروي قصة قد يعيشها أو عاشها العشرات إن لم يكن المئات والآلاف من الأشخاص بين أزقة حارات العاصمة الأردنية عمان.
وتدور أحداث الفيلم في حارة جبل النظيف الواقعة في شرق عمان، والتي تحمل بين ثناياها قصصاً كثيرة تشابكت أحداثها مراوحة بين الإثارة والكوميديا السوداء، فهي حارة تحكمها النميمة والعنف في شرق عمّان، حيث يقوم شاب مخادع بالمستحيل ليكون مع حبيبته، لكن والدتها تقف عائقا أمام اكتمال قصتهما.
وعندما تلتقط كاميرا شخص مبتز مقطعاً مصوراً لهما في وضع حميمي، تلجأ الأم في الخفاء إلى عصابة لتضع حدا لما يحدث، لكن الأمور لا تجري كما خُطط لها.
وتدور أحداث الفيلم في زمن درامي يتخذ لنفسه حيزا في الواقع الراهن ولكنه يستمد بعض التفاصيل من الماضي على أعتاب “الحارة” ذلك المكان المحمل بالقصص والحكايات والضارب في الماضي بما يحمله من شجن وحنين إلى الأيام الخوالي بحلوها ومرها.
ويختلف صباح الحارة وضجيجها عن ليلها وأسراره، وكذلك راوحت كاميرا باسل الغندور للحديث عن الحارة ومساحة العنف التي تستوطنها، ففي حارات عمان القديمة، وكذلك هو الحال في الحارات الشعبية والقديمة للدول العربية، يؤمن سكانها بأنهم “دولة داخل الدولة” في مساحة مكانية لها نواميسها وأحكامها، فحتى الأمن لا يجرأ على دخولها لفض النزاعات والخلافات التي تدور بين أسوارها المغلقة، فما يحدث في الحارة يخصها لوحدها، فلا احتكام إلا لكبير أو كبار الحارة، ولهم الرأي الأول والأخير في الأفراح والمشكلات.
وهذا بدقّته ما حاول غندور نقله عبر فيلم اختصر مجتمعا كاملا، يعيش بين الأزقة، في فقر وحاجة، ونصب واحتيال، تراوده من حبين لآخر القليل من مشاعر الحب يعيشها فوق أسطح تشهد على لحظات حميمية مسروقة وأحيانا الكثير من التضرع والأمل في حياة أفضل وأكثر حرية.
ويواصل الفيلم الأردني منذ أشهر حصد الجوائز من مهرجانات إقليمية وعالمية كان آخرها جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان أنوناي – فرنسا كما شهد قبل ثلاثة أشهر عرضه الأول عربيا في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
وحظي “الحارة” بإشادة واسعة ضمن عروضه في أكثر من 10 مهرجانات دولية في أهم مدن أوروبا، وأحدثها مهرجان روتردام السينمائي الدولي، أحد أقدم المهرجانات في أوروبا والعالم ليكون أول فيلم أردني طويل يشارك في تاريخ المهرجان.
وكان الفيلم قدم للجمهور في عرضه العالمي الأول ضمن فعاليات مهرجان لوكارنو السينمائي، وأقيم عرضه في ساحة بياتزا غراندي، على أكبر شاشة سينما تقدم عروضها في الهواء الطلق بأوروبا، حيث سجل أول مشاركة لفيلم أردني طويل في تاريخ المهرجان كما أنه يعدّ أول فيلم عربي يشارك في قسم بياتزا غراندي منذ 2008.
وفي مهرجان لندن السينمائي، رفع الفيلم شارة كامل العدد عبر رابط حجز التذاكر في المهرجان، ونافس على جائزة “ساوثرلاند” المخصصة لأول عمل إبداعي لمخرجه في فيلم روائي طويل، وكان أول فيلم أردني يشارك في مهرجان لندن منذ فيلم “ذيب” الفائز بجائزة بافتا والذي سجل آخر مشاركة لفيلم أردني في لندن قبل 7 سنوات.
وكان مشروع فيلم الحارة قد فاز بجائزة لجنة التحكيم لبرنامج صناعة الأفلام “استرن برومسز” ضمن فعاليات مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي بالتشيك، وحصل أيضا على جائزتين من ملتقى القاهرة السينمائي للأفلام الروائية في مرحلة ما بعد الإنتاج ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
كما تلقى الفيلم دعما من صندوق الأردن لدعم الأفلام التابع للهيئة الملكية الأردنية للأفلام، ومؤسسة الدوحة للأفلام (قطر)، ومعمل مهرجان البحر الأحمر السينمائي لتطوير الأفلام (السعودية).
ونال مشروع الفيلم خلال مرحلة التطوير مساندة كل من ورشة “إياف” للمنتجين، وورشة راوي لكتاب السيناريو، وملتقى دبي السينمائي، ومنتدى سورفند لترويج الأفلام التابع لصندوق النرويج لدعم سينما الجنوب.
وسبق أن شارك باسل غندور في تأليف وإنتاج فيلم “ذيب” الذي ترشح لنيل جائزة أفضل فيلم أجنبي في كل من حفل توزيع جوائز الأوسكار والبافتا، كما فاز بجائزة البافتا لأول عمل روائي أول سنة 2016. وفيلم “الحارة” هو تجربته الإخراجية الأولى، إلى جانب أنه أيضا من تأليفه.