يشارك في المسابقة الدولية لـ”القاهرة السينمائي”
“الحب من أول صراع”.. التكاتف البشرى فى مواجهة خطر الفناء
“سينماتوغراف” ـ أمجد جمال
لم يكن غريباً إكتساح هذا الفيلم لجوائز مسابقة “أسبوعى المخرجين” برصيد ثلاثة جوائز من بينها جائزة أفضل فيلم وهى من المسابقات الهامة التى تعقد بالتوازى مع المسابقة الرسمية لمهرجان كان، فمن اللقطة الأولى تدرك أنك أمام فيلماً لا يماطل فى طريقه للوصول إلى قلب وعقل المتفرج، فيلماً يوازن بين تقديم المتعة والقيمة، والأهم من ذلك هو أن تعدد طبقاته كانت الضمانة لوصوله إلى أكبر شريحة ذوقية من الجمهور، الذى سينقسم بعد مشاهدته إلى عدد من القطاعات، فبينهم من سوف يتلقاه كقصة حب ذات جوانب ومواقف مبتكرة تغلفها روح دعابة طازجة تجعل من يشاهده فى حالة جيدة، وبينهم من سوف يتلقاه على نحو أبعد كخطاب غرامى موجه للأرض والطبيعة، وهناك من سوف يتلقاه كدعوة لمزيد من الحميمية والتواصل والتكاتف البشرى فى مواجهة خطر الفناء.
يبدأ الفيلم بمشهد صادم فى سخريته حيث نرى بطل الفيلم مع شقيقه يفاصلان مع بائع على ثمن تابوت خشبى لدفن والدهما، نفهم منه بذكاء وسرعة الحالة التى اختارها مخرج ومؤلف الفيلم “توماس كايلى” فى أولى تجاربه مع الأفلام الطويلة لطرح حكايته، كما نفهم سمة شخصية البطل الهادئة حسنة الطباع المتصالحة مع الفظائع لدرجة معينة من البرود.
ينتقل الفيلم إلى احد فصول الصيف بقرية فى جنوب فرنسا، ويبدأ هذا الصيف بإنضمام “أرنود”، شخصية الفيلم الرئيسية، للعمل مع أخيه كنجار بعد وفاة والدهما، ثم يتقابل لأول مرة بـ”مادلين” الفتاة المتشائمة المخشوشِنة المهووسة بفكرة الإنضمام لأحدى فرقات الصاعقة بالجيش الفرنسى، يكون اللقاء الأول خلال مواجهة قتالية للإثنين كجزء من إختبارات تجريها معسكرات متنقلة للجيش الفرنسى من أجل تجنيد بعض الشباب، تنتهى المواجهة بتصرف أخرق من أرنود حين يقوم بعضّ ذراع مادلين بعد نجاح الأخيرة فى التفوق عليه خلال المواجهة، ثم يفاجأ أرنود بعدها بأيام أن نفس الفتاة هى إبنة إحدى زبائنه من العائلات الأرستقراطية التى يعمل لها، ومن هنا يبدأ فى الوقوع فى غرامها ما يجعله يترك حياته وعمله مع أخيه ويقرر أن يصحبها فى الإنضمام إلى معسكر الجيش.
من الممكن إعتبار الصراع فى قصة الفيلم أقرب لمحاكاة عصرية للصراع الشهير بمسرحية “ترويض النمرة”، لكن ما هو مميز بهذا الفيلم هى طريقة تصميم الشخصيتين الرئيسيتين بحيث لا يكون هناك طرفاً متفوقاً على الطرف الآخر، فالشخصيتان مليئتان بنقاط الضعف، منغمستان فى كثير من السلوكيات الخرقاء، وبحاجة ماسة لإكتشاف أنفسهما وفهم ما وراء جانبهما الظاهر، ما يجعلهما بحاجة إلى شريك روحى يساعدهما على ذلك. إختزال عرض الجانب الأسرى فى حياة “مادلين” أعطى الإيحاء بأن فى حياتها خيط حميمى مبتور، خيط يجعلها تتظاهر بالقسوة وعدم الإكتراث، فهل يستطيع “أرنود” وصل هذا الخيط لبلوغ قلب الفتاة التى سحرته بغرابتها. نحن هنا أمام تأسيس درامى موفق للغاية فى إمكانية إستغلاله لإثراء الفيلم بلحظات رومانسية مؤثرة، ومواقف كوميدية شديدة المرح.
تشتد الكوميديا بالفيلم مع الفصل الثانى (الوسط) حين ينضم الشاب والفتاة بالفعل إلى المعسكر الحربى ويحاولان التأقلم مع الحياة العسكرية ببريتها وقسوتها، ويقدم الفيلم هنا نقد واضح فى سخريته للفكرة العسكرية، فى عدة مشاهد أبرزها المشهد الذى يلقى فيه قائد الكتيبة قنبلة يدوية ويأمر أحد جنوده بإحاطتها بجسده لفداء باقى أفراد الكتيبة، كانت المرة الأولى لمادلين فى التخلى عن حسها التهكمى الخشن والإعتراض على هذا المبدأ قائلة “أن هذا ضد غرائزنا”، ليرد عليها القائد قائلاً “أننا هنا من أجل اداء الواجب وليس من أجل غرائزنا”، كانت تلك الشرارة الأولى لمرحلة تطوّر شخصية البطلة، وقد دعمتها مواقف أخرى مثلما حدث بذلك المشهد الذى تتعثر فيه بإجتياز الحائط فى إحدى التدريبات، وكأنها رسالة بعثت إليها تقول بأن مكانها ليس هنا.
– – الجيش هو أكثر المؤسسات توظيفاً فى هذا البلد.
– لا .. بل هو ثانى أكثر المؤسسات توظيفاً بعد مطعم “ماكدونالدز”.
هكذا تبادل الشخصيتان الرئيسيتان الحوار فى أحد المشاهد، حيث يوسع الفيلم رقعة سخريته من الفكرة العسكرية ويضمن معها سخرية موازية من الفكرة الإستهلاكية، أضاف لذلك الطرح مواقف أخرى على مدار زمن الفيلم، منها اللقطة التى يقوم فيها البطل بتسخين الكتاكيت المقتولة داخل جهاز “المايكروويف” فى إيحاء ذكى ومرح عن عداء الحداثة تجاه الطبيعة.
فى الفصل الأخير ينعطف الفيلم بمرونة شديدة إلى منحنى رومانسى بحت، ليس فى تطور العلاقة بين البطلين وحسب، بل فى زمان ومكان الأحداث اللا منتمى للعالم الإستهلاكى الحداثى بجانبه السلبى المعادى للطبيعة، واللا منتمى ايضا للعالم العسكرى المعادى للغريزة، بحيث يعود البطلان إلى حياة الطبيعة الأوليّة، فينامان بين الأشجار ويعيشان بجوار الأنهار ويمارسان الجنس بعاطفة قاتلة فوق الحشائش، وقد إحتوى ذلك الفصل على مشاهد قمة فى الحميمية على رأسها المشهد الذى يحمل فيه البطل البطلة وهى فى حالة اعياء خطيرة ويركض بيها بين البرارى محاولاً إيجاد أى وسيلة لإنقاذ حياتها، ظهرا فى ذلك المشهد كأنهم جسداً واحداً يصارع من أجل البقاء، وسط عالم يتجه بخطى ثابتة نحو القضاء على نفسه.
ومن المشاهد المذهلة فى التعبير قبل النهاية هو ذلك المشهد الذى يطرق فيه البطل أبواب بيوت قرية مهجورة مستغيثاً ولا يأتيه الجواب، إسقاطاً لفكرة الصمت الإنسانى على الكارثة البيئية التى تنتظر الكوكب. وهنالك مواراة حوارية شديدة الذكاء فى مشهد يخبر فيه البطل أخيه أن الغابات عندما تزيد أشجارها بمعدل غير معقول تحترق ثم تعود من جديد إلى حالة البداية، ثم تختتم البطلة الفيلم بجملة تلخص ما اراد المخرج إيصاله حين تقول “فى المرة القادمة سنكون أكثر استعداداً”.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن عنوان الفيلم بالفرنسية وهو “المقاتلون” يتناسب مع محتواه أكثر من العنوان الإنجليزى “الحب من أول صراع” الذى اعتمد على محاكاة وزنية للتعبير الإنجليزى الشهير “الحب من أول نظرة” مسطحاً بذلك المعنى العميق للفيلم.