«الخوذ البيضاء».. الإنسانية على حافة إزهاق الأرواح

 

ـ  أمنية عادل

أكثر من خمس سنوات هو عمر الحرب الدائرة في الأراضي السورية، حيث يستمر التنازع ما بين جيش النظام وفصائل مسلحة منها ما يحمل رائحة المعارضة ويزعم دفاعه عن الأراضي، ووسط كل الحقائق الكاذبة المنتشرة في الأوساط الإعلامية ويرويها شهود العيان، تظل الإنسانية هي أكثر ما يتعذب وسط تلك المنازعات السيادية التي لا تنتهى.

في حدود 40 دقيقة يوضح فيلم “الخوذ البيضاء” السوري المنتج في أواخر 2016، واقع سوري أليم على يد رجال “إنقاذ” يتبعون ما يسمى بقوات الدفاع المدني التي تنشط في مناطق النزاع بالأراضي السورية، ولا يخفى على أحد الواقع السوري المتفاقم، ومنازعة الشعب وسط صراعات لا ناقة له بها ولا جمل إلا كلمة حق أراد إلقائها للنظام لتغير مساره، إلا أن حلم الحرية لم يستمر طويلا وقامت الأرض ولم تقعد حتى لحظتنا هذه.

بناء محكم

يعتمد فيلم “الخوذ البيضاء” على سرد محكم يستهله المخرج البريطاني “أورلاندو فون إينسيديل” الذي قدم عدد من الأفلام الوثائقية القصيرة في السابق وآخرها الخوذ البيضاء، بروح التضحية التي تسيطر على فريق الخوذ البيضاء من خلال أحدهم يخرج من بيته بعد أن يلهو قليلا مع ابنته الصغيرة “أمل”، ليكشف لنا ملامح الأزمة بهدوء ورويه يصل معها إلى ذروة الصراع بعد التعريف بالحدث، ومن ثم تأتي النهاية بروح شجنة محملة بالألم اللامنتهي.

ورغم بناء الفيلم المحكم إلا أن هناك تساؤلات تظل تطرأ على المشاهد، لا يعطي لها المخرج إجابة، كما أنه لا يكترث لها، بل يكرس فيلمه لكشف المقاومة السلمية المعتمدة على إنقاذ الأرواح أمام إزهاقها المستمر، حيث يسلط “إينسيديل” فيلمه القصير لتوضيح معاناة هؤلاء المتطوعين لخدمة المتضررين من الحرب والقصف.

كما تعتمد حنكة الفيلم على ملحمية الحدث، من خلال مشاهد ولحظات إنسانية تكشف ما تعرض له هؤلاء السوريين وبلادهم من دمار وقتل، مع استعراض يوميات عدد من أعضاء الخوذ البيضاء.

سينما اليوميات التي وجدت مناخا جيدا لاستقبالها في السينما الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ألقت بضوءها على مبدعين السينما الوثائقية ورغم أن “إينسيديل” لا يذكر يومياته الخاصة ولكنه يعكف على رصد يوميات آخرين يستحقون أن ينظر لهم العالم متلصصا على حياة منقذي الأرواح.

ما له وما عليه

واجه فيلم الخوذ البيضاء حديثا ولغطا كثيرا، حيث الشركة المنتجة تعود إلى بريطاني يدعى  “جيمس لو مجيرر”، لاسيما أنه يحمل رؤية الجماعة المسماه بـ”جبهة النصرة” في مواجهة النظام السوري والقوات الروسية التي تدعمه.

السينما كسلاح

في هذا الصدد يوجه الفيلم بطريقة غير مباشرة عين المشاهد، لاسيما الغربي، الذي لا يعرف الكثير عن الصراع المتصاعد في المنطقة، خاصة سوريا التي باتت قلب الصراع بالمنطقة العربية، لهذا يستخدم المخرج، “بقصد أو بدون” السينما كسلاح فعال لتغير وجهة النظر الدولي والعالمي، وهو ما يفسر بعضا من أبعاد نجاحه وتفوقه في جائزة الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم وثائقي قصير، حيث تتوافق الرؤية الغربية مع إدانة الجانب الروسي الذي يحمي النظام، ويوضح العمل مدى الفداحة التي يقدم عليها النظام وعونه الروسي، وهو ما يتوائم مع الرؤية الغربية المدينة للجانب الروسي.

هذا لا يقلل من قيمة العمل كسرد وتقنية أوضحت الصعوبات التي يحيى بها الشعب السوري، فبغض النظر عن الرؤية التي يحملها الفيلم إلا أنه يصرخ عاليا بما يتعرض له الشعب السوري يوميا أمام أعين العالم.

طاقم مخضرم

إيقاع الفيلم أمتاز بالسلاسة والتوازن في ترتيب الأحداث، كما اعتمد على البعد الإنساني لإضفاء ملمح صافي للإنسانية في وجه الدمار، وقدم مونتاج المونتير البريطاني المخضرم “ماسهيرو هيراكوبو” روحا خاصة للعمل، استقى من القبح لوحات سينمائية بلمسات خاصة لمونتاج مدروس يخدم العمل ككل.

استعان مخرج العمل “أورلاندو فون إينسيديل” بأربعة مصوريين لمتابعة الأحداث المختلفة والمتتابعة، “فرانك دون، خالد الخطيب، فادي الحلبي، حسن قطان” وكما هو واحد فثلاثة منهم من داخل الواقع السوري، وهو ما عزز الرؤية الإنسانية السورية، ليصبح الفيلم إنساني وليس مجرد رصد لحالة الدمار المتصاعد.

يمكن لفيلم “الخوذ البيضاء” أن يحمل رسائل توجيهية للمشاهدين سواء لدعم المخالفين للنظام أو العكس، ولكن إذا ما نظرنا بعين مجردة بعيدا عن الأطراف المتصارعة تظل الحقيقة الواحدة التي تتكرر في كل حرب منذ بداية الخليقة وهي قتل الإنسانية ونفاذ مخزونها من قلوب البشر، لتبقي في قلوب القليلين وهم من نعتبرهم، جيش الإنسانية الصغير، الذي يرفع شعار “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.

Exit mobile version