«سينماتوغراف» ـ جايلان صلاح
الخوف هو البطل الرئيسي لأي فيلم في سينما ألفريد هيتشكوك، الذي صنع الرعب شهرته وإلى درجة أن صورته واقفاً إلى جانب الكثير من الشقراوات المذعورات والرجال المحنكين، تنافس أبطال الأفلام شهرة وأهمية. ويتجلى الخوف في أعمال هيتشكوك، مرتدياً آلاف الأقنعة، فيأخذ أكثر من صورة؛ التلصص في “النافذة الخلفية 1954 ” Rear Window، المنزل في “ريبيكا 1940” Rebecca، درجات السلم في “سايكو 1960” Psycho، القطار في “غرباء في القطار 1951″Strangers on a Train والأم الهستيرية في “الطيور 1963″Birds.
كل هذه الأفلام وغيرها رغم اعتمادها على تيمات عظيمة مرعبة، إلا أن عبقرية هيتشكوك في توظيف كل عناصر الفيلم من تصوير، وإضاءة، وديكور، وسيناريو، وموسيقى تصويرية، جعلت من أدق تفصيلة في أفلامه، مدخلا للرعب. فالتلصص، والأشرار الجذابون، والشقراء الباردة، والطيور المسالمة، وعربات القطار، وأصحاب النزل، والسلطة الأمومية، والمرتفعات، والبراندي، كلها عناصر تكرارية غنية بالتفاصيل، وكلها تتشكل معاً لتكون الصورة الأشمل لمسرح الأحداث المشوقة أو المرعبة والتي يقف هيتشكوك أعلاها، يتحكم في الطقس والغريزة ومصائر أبطاله بغرور وفهم عميق لنفوس أبطاله، تاركاً للمشاهدين التعاطف مع من يريدون، فالكل متواطئ في الجريمة بالنسبة لهيتشكوك، وربما يكون هذا ما يجعل الرعب حقيقياً وأصيلاً عند النظر لأفلامه بعمق.
ولم يكن هيتشكوك معنياً بالجوائز، ولا بالتجريب، فقد ركز جل اهتمامه على ألا يتململ المشاهد في مقعده بالسينما، وألا تغادر عيناه الشاشة أثناء مشاهدة الفيلم. وهنا يغوص هيتشكوك في أعماق شخصياته، ويعبث، يخدش قشرة الحضارة الأولية ليخرج لنا من بساطتها بالعناصر الأشد رعبا؛ فتاة تستمتع أسفل الدش، رجل يصعد السلم، رجل يرتدي ملابس امرأة (وهنا لعب على تيمة الـ crossdressing وما كانت تسببه من تابوه في النفس البشرية قديماً)، الحسية والسقوط من أعلى.
ربط هيتشكوك ما بين الغريزة الجنسية وشهوة الطعام، وبين الأكل والموت، في أكثر من مشهد طوال مشواره السينمائي، يربط ما بين غريزة وأخرى، فيشتت المشاهد ما بين مخاوفه الكامنة من كل ما هو مألوف.
“ترى هل تكون هذه آخر وجبة طعام أتناولها في حياتي؟”
“ترى هل تدس لي زوجتي السم في الطعام؟”
الندم، الشك، القتل بدم بارد، الجوع الجسدي والنفسي، كلها معاني تتحطم على مائدة طعام هيتشكوك العامرة بالمخاوف. فهو يرى أن مخاوف الطفولة تظل حية داخلنا وتتبلور على هيئة صور أخرى بسبب النضج أو النسيان. الذئب الذي أخافنا وهو يطارد ذات الرداء الأحمر، مازال الذئب الذي يخيفنا الآن.
قد يتخذ هذا الذئب أكثر من وجه: طلاق، فقدان وظيفة، خيانة زوجية أو ضائقة مالية، وقد يأخذ شكلاً عاماً مثل الخوف من الكوارث الطبيعية أو الإرهاب.
“عقدة الخوف مغروزة في أعماقنا،” يؤكد ملك الإثارة. وهو على حق.
الغريزة الجنسية بكل ما فيها من تضادات ومحظورات كانت من الموضوعات الشاغلة لهيتشكوك في أفلامه، خاصة وأن الهيئة الرقابية الأخلاقية الأمريكية وقتها “Motion Picture Production Code” كانت تضع العديد من المشاهد في خانة المحظورات، حيث يدعي أفرادها الحفاظ على القيم الأمريكية الأصيلة من خلال حذف مشاهد العري والعنف والجنس خاصة إذا كان ما بين شخصيات غير متزوجة. لكن هيتشكوك تحايل على الهيئات الرقابية والتي ادعى بعض أفرادها رؤية جزء من ثدي البطلة في سايكو أثناء تصوير مشهد الدش الشهير، كما ادعى آخرون أنهم رأوا مؤخرة دوبليرة البطلة في نفس المشهد. أبدى بعض الأعضاء اعتراضهم على مشهد الفيلم الافتتاحي، حيث البطلة ماريون وعشيقها يتداعبان في الفراش، مما أدى بهيتشكوك إلى أن يتفاوض معهم، فهو مستعد لإعادة تصوير المشهد الأول تحت إشرافهم إذا تركوا مشهد الدش دون المساس به وبلا حذف لأي جزء من أجزائه.
هذا الموقف يثبت مدى إثارة هيتشكوك للجدل في وقت كانت الرقابة فيه مزدهرة، تضع أقفالاً على عقول الناس عن طريق فلترة أفلامهم. تحدى هيتشكوك الرقابة وتحدى خوفها من الجنس أو الإيحاءات في سايكو، وفي أكثر من فيلم. لكن شكسبير السينما كما أطلق عليه، لا يغفل السخرية من الرقابة والتابوهات الجنسية في لفتات بسيطة، ورموز إنما تسقط على أبطالها شهواتهم وغرائزهم التي لا يتبين هل هم الذين يكبتونها، أم أن الرقابة هي المسئولة عن ذلك؟ فيتحول مشهد عناق مستر ومسز ثورنهيل الحار في ختام فيلم “الشمال عن طريق الشمال الشرقي 1959” North by Northwest إلى قطار يدخل النفق بسرعة، أو افتتانه بالعنف والجنس في سايكو و الفيلم الصامت “النزيل1927” The Lodger، حتى قدم أول مشهد عري في فيلمه “جنون1972 ” Frenzy، وإن كان دوار Vertigo في رأي النقاد الكبار أمثال روجر إيبرت ودونالد سبوتو، هو الفيلم الأكثر تعبيراً عن هواجس هيتشكوك التي تمزج الجنس بالعنف، وهو أكثر أفلامه ذاتية، فهو عن طريق شخصية سكوتي المهووس بمادلين، إنما هو هيتشكوك المهووس بالمرأة الأكمل والتي يعيد تصنيعها في كل فيلم تلو الآخر عن طريق قتل شقراء جميلة وراء الأخرى.
الغريب في رعب هيتشكوك، أنه يبدو كما لو أنه يضحك ساخراً من سذاجتنا واندفاعنا وراء مشاعرنا وشهواتنا. بمخلب يخدش هيتشكوك القشرة السميكة التي تغلف وعينا الجماعي، ويخرج الخوف بدائياً كما يجب له أن يكون، يحرك كاميرته للوراء مع مزجها بالزووم إن فيشعر المشاهد بالدوار، يقرب الكلوز إن من وجه الشقراء المرتعبة أسفل الدش في أقسى لحظات رعبها، ويكسر الحاجز الرابع في مواجهة أحد أبطال أفلامه المشاهدين متسائلاً، “ماذا تريدون مني؟” وهو في الحق يواجه شخصية أخرى بالفيلم، لكن المشاهد قد تحول من خلال الكاميرا إلى متلصص، إلى متواطئ ومتآمر مع شخصية ضد أخرى، يرى بعينيها وربما يتفاعل بتفاعلها فتختل رؤيته لنفسه، وتتفكك صمامات الأمان التي يحيط بها نفسه كلما شاهد فيلماً، لئلا يندمج بصورة أكثر من اللازم.
الخوف هو رفيق هيتشكوك منذ طفولته الكاثوليكية الصارمة المليئة بالأوامر والموانع، وهو يصحبنا طواعية في رحلة داخل عقله الباطن، فيصبح القطار الذي يدخل النفق مسرعاً في ختام “الشمال عن طريق الشمال الشرقي” ماهو إلا قطار الملاهي الذي نركبه لندخل عقل هيتشكوك الباطن، مجرداً من المعنى الفرويدي العابث الذي قصده هيتشكوك في سخرية واضحة من الرقابة، والرقباء، وميكانيزمات الدفاع التي يبنيها كل منا للتغلب على الخوف.
المصادر:
مجلة البينة الثقافية ـ الجارديان البريطانية ـ كتاب سايكو/جنسي: الرغبة الذكورية في أفلام هيتشكوك، دي بالما، سكورسيزي، وفرايدكين لدافيد جريفين ـ موقع الناقد روجر إيبرت.