هوفيك حبشيان يكتب من «كان» لـ «سينماتوغراف»:
بعد دورات عدة اكتفت بعرض أفلام باهتة ذات طابع استهلاكي ليلة الافتتاح، انطلق مهرجان كانّ (13 ــ 24 مايو) مساء أمس بفيلم ايمانويل بركو «الرأس المرفوع». استغرب كثرون هذا الخيار عندما أُعلن عنه في الشهر الماضي، وإنما يبدو أنّ بيار لسكور الذي استلم دفة الرئاسة من خَلَفه جيل جاكوب أراد إطعام الدورة الـ68 ببعضٍ من شخصيته ورؤيته السينمائية. الرجل العاشق للسينما والمطلع عليها اطلاعاً واسعاً، يتمسّك بوجهات نظر مختلفة قد لا تنعكس في الدورة الحالية بل تباعاً في الدورات المقبلة. ربما قد نرى أفلاماً لمخرجين جدد لم يحظوا سابقاً بمكان تحت شمس كانّ، كما الحال مع بركو، المخرجة الأربعينية التي شاركت مرة واحدة في كانّ قبل الآن، وإنما في أحد الأقسام الموازية وليس في التشكيلة الرسمية. فنحن هنا في “الرأس المرفوع” أمام عمل متكامل العناصر ينتمي الى سينما المؤلف، سواء بكارداته أو انفعالاته أو خطابه أو رؤيته الشاملة للسينما كفنٍّ يلتزم قضايا المجتمع والفرد من دون أن يصبح أداة ترويجٍ دعائية.
تعاونت بركو في فيلمها مع مجموعة ممثلين يرفعون شأن الفيلم، ذلك أنّه هو أصلاً من النوع الذي يعتمد على أداء الممثلين. هناك في مقدمتهم سيدة الشاشة الفرنسية كاترين دونوف، ابنة الثانية والسبعين، التي انطلقت من هذا المكان نفسه، قبل 51 عاماً، يوم فاز «مظلات شربور» لجاك دومي بـ«السعفة الذهب». هي تضطلع بدور القاضية التي تسعى الى اقناع شاب متمرد مشاكس في السادسة عشرة أن ينظر في الاحتمالات الحياتية المطروحة أمامه، ويقول «لا» كبيرة للعنف الذي يدفعه الى ارتكاب الحماقات. الشاب مالوني يجسده رود بارادو، ويمكن القول أنه يحمل الفيلم على كتفيه اليافعتين في الظهور الأول له على الشاشة. حول دونوف وبارادو تتحلق ثلة من الممثلين الذين يجسدون السلك القضائي أو التربوي. للمناسبة، التزمت بركو وشريكتها في كتابة السيناريو قراراً بعدم الخروج من الأماكن المغلقة إلا نادراً. نتيجة ذلك، نجد أنفسنا في بيئة ضاغطة تؤثر سلباً في تلقينا الفيلم، ولكن هذه السلبية تتحول لقطة بعض لقطة الى محاولة لوضعنا في الحال النفسية التي يعيشها مالوني. فجدران المكاتب والمحاكم والمراكز التربوية كأنها تطبق على قلب مالوني، وتالياً تطبق على قلوبنا.
ولكن ما المشكلة التي يعانيها مالوني؟ هل هو نقص في العاطفة؟ غياب نموذج الأب؟ هل مالوني ضحية أم معتدٍ؟ هذا ما لا يكشفه الفيلم، إذ أنّ النصّ ميّالٌ أكثر الى رصد الآلية التربوية المعمول بها في فرنسا. والسؤال الأكبر الذي يطرحه: ما الأفضل لمصلحة مالوني؟ القسوة أم الاعتدال؟ القصاص أم السماح؟ في النهاية، ستغلب قيم الجمهورية على سائر الحلول المطروحة لتجعل من مالوني شخصاً أفضل وليس بالضرورة شخصاً مثالياً. ما هو مشوق في الفيلم هو هذه المجابهة بين القاضية دونوف ومالوني، أيّ بين مدرستين في النظر الى الحياة. القاضية تمثل فرنسا المتحضرة، الصامدة أمام تحوّلات العصر، المترهلة، في حين أنّ مالوني يطرح نموذجاً آخر: إنه الفوضوي الذي لا قضية له سوى التمرّد الفارغ. من المجابهة بينهما، يستمد الفيلم شرعيته وخصوصيته والتشابه الذي أثير خلال المؤتمر الصحافي بين عالم الجناة الذي يصوره الفيلم ومرتكبي جريمة «شارلي ايبدو» المتحدرين من عائلات مهاجرة.
شجاعةٌ دونوف كانت عندما صرّحت إنه لا يمكن إنكار تلك الاحالة غير المقصودة على الحوادث التي أبكت فرنسا في السابع من يناير الماضي، علماً أنّ الفيلم كان صُوِّر قبل الاعتداء. فالارهابيون القتلة عاشوا طفولة صعبة وتربوا في بيئة مهمشة، ودخلوا المراكز ذاتها التي دخلها مالوني، وعانوا من الاقصاء. ثم أضافت في حديثها عن هؤلاء الذين أهملهم المجتمع والدولة: «نحتاج الى الكثير من الوقت لتحقيق العدالة، هؤلاء الفتيان منطوون على أنفسهم. دهشتُ وأنا أكتشف عدد الاشخاص الذين يهتمون بصبي جانٍ داخل المراكز المختصة. لا نستطيع، يا للأسف، انقاذ الجميع. المشكلة تبدأ عندما يفشل الأساتذة في جذب اهتمام التلميذ الى نشاط معين. الأهم ألا نجعلهم يشعرون بأنّ ثمة اقصاء في حقهم. هؤلاء الذين تنقطع الصلة بينهم وبين المجتمع باكراً هم الأكثر تعرضاً للضرر من غيرهم. حتى الذين ينالون الشهادات، نجدهم في حال من السوء، كونهم يشكون من البطالة».
بالنسبة الى دونوف «هذا الفيلم يردّ الاعتبار الى الذين يعملون في الخفاء بعيداً من الأنظار”. ومن أجل تشكيل دورها واشباعه بعناصر من الواقع، ذهبت الى محكمة باريس مراراً وتكراراً كي تستمع الى شهادات القصارى، وراحت تراقب الكيفية التي يعمل بها القضاة، بل ودققت في تفاصيل علاقتهم بالجناة. فعادت بهذا الاستنتاج الذي طرحته على الملأ. “القضاء مهنة لا نعرف عنها الكثير باستثناء ما نرى منها عبر التلفزيون ــ لا يمكن مزاولتها إذا لم يكن المرء ملتزماً بها».
وتطرقت دونوف في لقائها بالصحافة الى تصريحها لـ«غارديان»، قبل ايام من انطلاق المهرجان. تصريحٌ مفاده انه ليس هناك في فرنسا اليوم نجومٌ كبار. فأوضحت أنّ المقصود انه لم يعد هناك نجوم يجرون المشاهدين الى الحلم، إلا أنّ الصحافي الذي كتب المقابلة قام بتجزئة كلامها، الأمر الذي سيجعلها تتوخى الحذر في المستقبل. ثم استفاضت في نقد ما بات يُعرَف اليوم بوسائط التواصل الاجتماعي التي تبالغ في طرح الأمور وتساهم في إحداث بلبلة من أمور سطحية لا قيمة لها. أما مأخذها على النجوم، فهو تواصلهم المستمر مع الجمهور ونشرهم المتواصل لصورهم الشخصية أمام العلن، وختمت: «هذا لا يصنع النجومية. يجب ان نبقي بعض الامور بعيداً من أنظار الناس».