«الرابعة بتوقيت الفردوس».. حكايات الدم والموت

السينما السورية لاتزال قادرة على إدهاشنا

الاسكندرية ـ «سينماتوغراف»: انتصار دردير

لا تزال السينما السورية قادرة على إدهاشنا، ففى ظل أصوات القنابل والانفجارات، ورائحة الموت المنبعثة من كل مكان، هناك مبدعون يصرون على أن يقولوا كلمتهم بصدق مهما كان الثمن، وأن يرووا لنا حكايات سورية حزينة، لكنهم لايقعون أسرى لهذا الحزن ويتمسكون بالأمل الذى قد يتجسد فى ميلاد طفل يؤكد استمراية الحياة وأن الغد قد يحمل معه البشرى.

فى أحدث أفلامه «الرابعة بتوقيت الفردوس» الذى شارك بالمسابقة الكبرى لمهرجان الأسكندرية السينمائي وحاز جائزة لجنة التحكيم، يأخذنا المخرج محمد عبد العزيز إلى بيوت وشوارع ومستشفيات سورية تقاوم الموت وتنحاز للحياة رغم واقع شديد المرارة والخوف، يقدم لنا أبطاله الذين انتقاهم ورأى فيهم تلخيصا لكل ما يعيشه السوريون، تتداخل حكاياتهم وتتقاطع وتشابه فى تفاصيلها، اذ يجمع بينها جميعا أجواء الحرب التى سرقت الفرحة وجعلت الخوف يسكنهم.

تلعب المستشفى دورا رئيسيا فى الأحداث، لتجمع امرأتين على وشك الموت.. الأولى مايا التى فقدت شعرها جراء العلاج الكيماوى، وفقدت أيضا ابنها بعد أن هجرها زوجها الثرى العربى – الذى فرضه عليها الأب السياسى القديم – بعد مرضها. يتخلى عنها الزوج ويمنعها من رؤية طفلها فلا تبقى سوى صورته التى تتطلع اليها طول الوقت، وبينما يعود اليها حبيبها الموسيقى القديم المهزوم بفعل سنوات قضاها كسجين سياسى إثر وشاية من صديقه، يطرده الأب وينهر ابنته، ويأتى صديقه الذى وشى به ليخبره فى لحظة تطهر أنه هو من وشى به.

يتعرض الموسيقى لصدمة تجعله يخلع ملابسه قطعة قطعة بينما صديقه يعاقب نفسه ويفعل مثله ليصبح الاثنان عاريين، فى إشارة موحية بوطأة الظلم وخيانة الأصدقاء.

فى المستشفى أيضا يسابق رجل كردى الحياة لإنقاذ زوجته، حيث ينقلها بسيارته التى يجرها حصان ويحمل أمتعة البيت القليلة وطفله. يموت الحصان فى الطريق. يواصل رحلته التى لابديل عنها. يجر السيارة ، ثم يحمل زوجته المريضة على كتفه ويطول طريقه الى المستشفى، وهناك يؤكدون بضرورة جراحة عاجلة، بشرط أن يدفع تكاليفها، لايفكر طويلا، ويقرر بيع كليته!

تتفاقم المأساة حين يقع ضحية لعصابة تستغل حاجته وتستولى على نصف المبلغ ويخبره أحدهم (الأموات الأن ما أكثرهم، لم يعد أحد يشترى كلية، والموتى على قارعة الطريق).

إذا كنت فى وطنك غير آمن على نفسك وأبنائك، هل تتركه وترحل أم تتمسك بالبقاء فيه؟ خياران كلاهما مر بين زوجين. ينجح الرجل فى الحصول على عقد عمل بالسعودية، يأخذ طفليه وزوجته وأبيه الذى يقوم برفع كراكات البناء ويتلكأ فى الذهاب معهما إلى المطار، فى الطريق ترفض الزوجة فكرة السفر ويؤكد الأب أنه نسى جواز سفره، يكاد الرجل ينفجر فيهما، إذ لا بديل عن النزوح، الوقت يداهمهما وموعد الطائرة يقترب. يقترح الأب أن يعود لدمشق لإحضار جواز سفره، وأن يلحق بهما، لكنه يبدو فى قرارة نفسه وقد عزم على البقاء فى وطن لايستطيع أن يغادره.

السياسى الكبير والد مايا يقرر الانتحار، لكنه يلتقى فى طريقه برجل وزوجته وقد تعطلت سيارتهما والمرأة فى طريقها للمستشفى لتضع مولودها الأول، المفارقة أن مولودتها تأتى بعد تسع سنوات من الانتظار  لايسقط الفيلم فى فخ الميلودراما طوال الوقت، ففى مشهد غارق فى الكوميديا يتنازع الزوجان وهما يشرحان للسياسى بعد أن أوقف سيارته لتوصيلهما، رحلة مولودتهما من خلال الأشعة التليفزيونية وتطير أوراقها من السيارة فتصر الزوجة أن تستعيدها ووسط منطقة زراعية تخلو من البشر تضع مولودتها بمساعدة زوجها، فى الوقت الذى يتخلص فيه السياسى من حياته، فتتعانق ثنائية الموت والحياة .

أما راقصة الباليه فتدعو أمها لحضور حفلها، لكن الأم تبدو أنها تعيش فى عالم آخر كأنها مغيبة عن الوعى، فترفض وتخبرها أنها ستذهب لحفل عبد الحليم حافظ، تموت الباليرينا إثر حادث انفجار مدبر لسيارتها، ويهرع الجندى الذى يحبها فى محاولة لإنقاذها. يبذل الأطباء قصارى جهدهم، تخرج وقد تناثرت الدماء على وجهها وجسدها وتغادر سريرها لترقص الباليه وتحلق فى أجواء الفرحة، فى مشهد يبدو كالحلم، وكأنها فى الفردوس.

برغم قتامة الأحداث ينجح المخرج محمد عبد العزيز فى أن يطرح بصيص الأمل، فى لحظة جمعت بين الموت والميلاد، ونجح بمونتاجه المتدفق السلس فى أن ينقل لنا أدق مشاعر ومخاوف وأحاسيس الناس فى أجواء الحرب، معتمدا على أداء قوى لممثليه وعلى رأسهم الفنانين أسعد فضة وسامر عمران .

 الرابعة بتوقيت الفردوس.. (وسوريا هى الفردوس فى نظر المخرج)، فيلم يأخذك خلال يوم واحد إلى تفاصيل حزينة ومشاهد مؤلمة وموتى يتساقطون ودم يغطى الجدران والحوائط. إنه يلخص حكاية الموت وميلودراما الحياة، وينقل صورة صادقة لكنها شديدة المرارة.. صورة تجعلك تتوحد معها، فتصيبك بالحسرة والحزن، وتغادر قاعة العرض مكسور الخاطر.. مثل أبطاله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version