ـ إبراهيم الملا
قدم المخرج الإماراتي الشاب عبدالله الكعبي، قبل خمس سنوات في مهرجان دبي السينمائي، فيلمه الروائي القصير الأول بعنوان «الفيلسوف» مع الممثل الفرنسي الشهير جان رينو، وضرب مساء أمس موعداً مع شاشة المهرجان من خلال أولى أعماله الروائية الطويلة بعنوان «الرجال فقط عند الدفن» ضمن عروض مسابقة المهر الإماراتي. وبين هذين الزمنين المتباعدين جرت مياه كثيرة تحت جسور الوعي الفني، والرؤية الإخراجية للكعبي والتي أفصحت في فيلمه الجديد عن نضج وتمكّن واستحواذ كبير على الأسلوب التعبيري وطرائق الاشتغال على الكادر البصري استناداً لمسارات القصة وتشعباتها، وقياساً إلى الزخم النفسي للشخصيات المركبة في حيز سيكلوجي ينضح بذكريات شاحبة، وآلام دفينة، واعترافات محرّمة تغصّ بالصمت والحيرة والكتمان.
تتأسس البنية الدرامية للفيلم على خمسة شخصيات (أربع نساء ورجل)، ولكل شخصية في هذه الكتلة الأدائية المتشابكة ثقل لا يستهان به، من حيث التأثير على الشخصيات الأخرى المجاورة لها في فضاء معذّب ومحكوم بجاذبية مدمرة، وعلاقات قائمة على الشك والريبة والتوجّس.
يحكي الفيلم قصة الأم العمياء (فاهمة) التي تعيش مع أختها (عارفة)، وتقرر أن تستدعي ابنتها (غنيمة) التي لم تجتمع معها منذ زمن طويل كي تبوح لها بسرّ لم تكشفه لأحد من قبل، وعند اجتماع الأم والأخت والابنة في مكان واحد، وتحديداً فوق سقف المنزل، تزلّ رجل الأم العمياء وتسقط في الفناء الخارجي، وتكتمل المأساة عندما يدهس زوج (غنيمة) بسيارته الأم كي تفارق الحياة بصدفة ملعونة، وكي يبقى سرّها الغامض معلقاً في فضاء اللبس والتأويل، وكي تبقى المفاتيح الضائعة رهناً بيد الاعترافات والتلميحات المتتابعة خلال المشاهد اللاحقة في الفيلم. وزع المخرج الزمن السردي للعمل على ثلاثة أجزاء، استناداً إلى أيام العزاء المتعارف عليها في المجتمعات الشرقية، ففي اليوم الأول يأتي محافظ القرية للمشاركة في مراسيم الحزن ويطرح عدداً من الأسئلة ذات الطابع البوليسي حول ظروف الوفاة والسيارة التي تقبع في الفناء الخلفي للمنزل وعليها آثار الاصطدام، وغيرها من الأسئلة التي تسفر في كل مرة عن إجابات مراوغة من الجميع، فينسحب المحافظ، ويأتي الدور على مجموعة من النسوة المعزيات اللاتي يتهامسن بإشاعات وقصص ملفقة تحمل الكثير من المبالغة والتهويل حول شخصية الأم وحكاية ابنتيها وظروف هجر (غنيمة) للأم، وهروب الأخرى (عائشة) من المنزل منذ زمن بعيد، ومباشرة بعد وفاة والدها.
وفي المعالجة المشهدية لليوم الثاني يشرع المخرج في إزاحة شيء من الغموض حول طبيعة الشخصيات ودوافعها المحركة للأحداث، ويبقي على بعض البقع المبهمة في نسيج العلاقات الحذرة والمتوترة فيما بينها، فنكتشف أن الابنة (غنيمة) هي ضحية لزواج قسري، وأن زوجها (جابر) غير متصالح مع ذاته ومع مؤسسة الزواج أصلا، وأن ما يجمعهما هو مجرد شكل اجتماعي خارجي، بينما هو الحقيقة انفصال جارح ومؤلم للطرفين، وفي المقابل نكتشف أن الأخت الهاربة عائشة هي ضحية أخرى لعنف التقاليد الاجتماعية وتدخلات الموروث الديني والمذهبي في إقامة حواجز سميكة بين الحرية الفردية والقناعة الذاتية، وبين الإملاءات الخارجية القاطعة والجبرية، بينما نرى العمة (عارفة) كمحور ضابط ومشعّ يضيء على التحولات الغريبة في سلوكيات أفراد العائلة بعد وفاة الأم.
وفي الزمن الأخير للفيلم، وفي اليوم الثالث من أيام العزاء تبدأ اللعبة المدوخة للسرد والتتابع المشهدي وسط زوبعة من الصدمات والاعترافات والظهور المفاجئ لشخصيات من خارج العائلة مثل الجارة (عادلة) والممرضة (خلود) التي صاحبت الأم في فترة مرضها، ويكشف لنا الفيلم أيضاً عن الحياة الخفية والسرية للزوج (جابر)، بينما تعثر الابنة غنيمة على رسائل وقصائد شعرية كتبتها الأم للممرضة، بحيث تعدت علاقة الصداقة بينهما إلى ما يشبه العشق، وأن عماء الأم لم يكن سوء حيلة بديلة منها لاكتساب عطف الجميع وعودتهم إليها، وخصوصاً ابنتها عائشة التي تأتي إلى المنزل وهي حامل في شهرها الأخير وتضع ابنها شاهين من أب مجهول، وتبقى في المنزل دون أن يكتشف أهالي القرية أمرها، ليتحول الجميع إلى ما يشبه الأيقونات المأساوية في مجتمع إقصائي لا يعترف بحقوق النساء ولا بالأشخاص المختلفين عن السائد، حيث يبقى حضورهم مقروناً دائماً بهامش الحياة وخفاياها، وبقدر ما تتوسع سلطة التقاليد، بقدر ما يتضخم الكبت ويتحول التمرد الشخصي إلى شبهة وجريمة واعتداء على مقدسات وهمية متراكمة.
اعتمد المخرج عبدالله الكعبي على حلول ذكية لإيصال شيفرات ورسائل الفيلم الضمنية، وكان لجوؤه للكادرات الثابتة والطبيعة الصامتة والمناخات المسرحية مقروناً برغبته في كسر التابوهات التقليدية الصلبة للواقع، وكانت المشاهد الفانتازية والانتقالات المرهفة إلى عالم الأحلام والخيالات الغرائبية بمثابة احتماء ولجوء إلى النموذج السحري وتجليات التعبير السينمائي المخترق للواقعية الجامدة، والخطاب المباشر والمنهزم أمام السؤال الفلسفي والإشكالي حول توصيف الفرد، وحول قيمته ككائن جمالي مجنّح ومحلّق في فضاءات واسعة تتعالى فوق كل سجن وكل قيد وكل انتقاص يحدّ من حرية هذا الكائن، ومن نزوعه المستمر للاستقلالية والتغيير.
فيلم «الرجال فقط عند الدفن» هو أحد التجارب الإماراتية المميزة في تناولها قضية حسّاسة، ومعالجتها بلغة فنية بارعة، وكادرات بصرية رشيقة، وحوارات تغرف من بلاغة المعنى، وتصدر من كثافة الرؤيا، بعيداً عن التشتت والمجانية والابتعاد عن جوهر وصلب الحبكة، وهو من الأفلام المحلية القليلة التي اهتمت بالعمق الدلالي للصورة، وببيئة التصوير المشحونة بالعلامات والرموز الناطقة وجماليات التكوين المشهدي، إضافة إلى السينوغرافيا الموظفة بدقة لخدمة المناخ المغلق لنفسيات محاصرة، وتوّاقة في ذات الوقت للبوح عن أسرارها وعذاباتها.