كانت متواضعة ومتسامحة مع البواب وسايس الجراج والخادمة والمكوجي
خاص ـ «سينماتوغراف»
يعرف كثيرون أنها سيدة المشاعر، شهرزاد الهاربة من كتاب ألف ليلة وليلة لتحكي قصص الحب، الملاك البريء الذي سكن قلوب كل عشاق الفن السابع، سيدة القصر وسيدة كل المشاعر النبيلة، التي يفيض وجهها بنهر الحب، صوت الكروان ووجه القمر، ابنة النيل وسفيرة الرومانسية.
هذه هي فاتن حمامة التي يعرفها الجميع، أما فاتن الأخرى التي لا يعرفها إلا البواب، المكوجي، السفرجي، السائق، بائع الصحف، الجيران، فبالتأكيد لا يعرفها إلا هؤلاء أنفسهم، التقتهم «سينماتوغراف» في منطقة الزمالك التي عاشت فيها سنوات طويلة، وفتشت في عقولهم وقلوبهم عن فاتن حمامة التي لا يعرفها أحد، وكانت التفاصيل التالية:
فمنذ أن تغادر كوبري الوصلة الأولى من كوبري 15 مايو التي تاخذك من كوبري أكتوبر المكتظ دوما بآلاف السيارات التي لا تنقطع أبوابها المزعجة، إلى حي الزمالك حتى تكتشف أنك انتقلت من النقيض إلى نقيضه تماما، فالهدوء يغلف كل شيء في تلك البقعة الخضراء التي تتبع محافظة القاهرة وتفصلها عن الجيزة، وتبدو ملامح الأرستقراطية كلما توغلت في شارع «الجبلاية» وصولا إلى «السفارة»، والسفارة التي نقصدها هنا ليست ممثلية دبلوماسية لدولة كما عشرات السفارات المنتشرة في هذا الحي، إنما هي سفارة من نوع خاص، تعرف بعمارة «ليبون».
وعمارة «ليبون» كانت «سفارة» أهل الفن في حي الزمالك، ففي طابقها التاسع كانت تقطن فاتن حمامة وعمر الشريف، بينما تسكن في الطابق الثامن لبنى عبد العزيز، وفي الثاني كانت تقيم الفنانة الراحلة ليلى فوزي وزوجها جلال معوض، كما أقامت النجمة شريهان أعواما طويلة في الشقة التي ورثتها عن والدتها بنفس العمارة وقامت بشراء شقة ثانية حولتها إلى مكتب خاص لأعمالها، كما سكنتها أيضا الراقصة والفنانة الراحلة سامية جمال ورشدي أباظة، وغيرهم، وما أكثر المرات التي يلتقي فيها الزوار داخل مصعد العمارة كبار الفنانين آنذاك أمثال المنتج رمسيس نجيب، والمخرج هنري بركات، عبد الحليم حافظ، عبد العزيز محمود، ميرفت أمين، وغيرهم.
ساكنة السفارة
لا تعرف حينما تقترب من العمارة التي سكنها أيضا عدد كبير من مشاهير الفن والصحافة من المصريين والعرب أي اسم تربطه بها، اسم مصممها المعماري المصري أنطوان سليم نحاس الذي كان واحدا من كبار المعماريين المصريين في القرن الماضي، أم اسم رجل الأعمال اليهودي تشارلز ليبون الذي اقترنت به بعد تملكه للعمارة؟ والذي ينتمي لإحدى العائلات اليهودية التي فتح لها محمد علي والي مصر باب الاستثمار في منتصف القرن التاسع عشر.
ومنذ إنشاء العمارة قبل 57 عاما تولى حراستها وخدمة سكانها عدد من أهل النوبة المميزين بسمرة بشرتهم وملابسهم ناصعة البياض، والذين توارث أبناؤهم مهنتهم تلك وما زالوا يعملون بها حتى الآن، وتتميز العمارة بتفاصيلها الراقية مثل صناديق البريد المصنوعة من خشب البلوط، والأرضيات والنافورات الرخامية الرقيقة، وتتكون «ليبون» من 14 دورا على مساحة ألف وخمسمائة متر مربع، وبها أكثر من مائة شقة، وملحق بها حديقة متميزة، ومتنزه لكلاب السكان، وناد لألعاب الأطفال.
وعن هذا الجو الذي كان يحيط الفنانة فاتن حمامة في سكنها، والذي انتقلت إليه عقب انفصالها عن زوجها الأول المخرج عز الدين ذو الفقار الذي تزوجته فور انتهاء دراستها الثانوية وأنجبت منه ابنتها «نادية»، ومن ثم ارتباطها بالممثل الشاب آنذاك عمر الشريف، وعاشا سويا في الطابق التاسع من «ليبون»، يحدثنا بواب العمارة «محمد حسن»، الذي أكد أنه يعمل بها منذ أكثر من 30 عاما، وكان والده من قبل بواباً للعمارة أيضا، أن «الست فاتن» التي عرفها لم تكن تلك المنكسرة دوما في أعمالها السينمائية، بل كانت دوما مثالا للمرأة القوية المتماسكة، لكنها في الوقت نفسه كانت طيبة القلب، عطوفة، سريعة التأثر حينما يتعلق الأمر بآلام الآخرين، تنزعج لبكاء طفل، وتفقد أعصابها وقدرتها على النوم مع الصوت العالي، وكثيرا ما كانت تطل من شرفة شقتها غاضبة إذا ما أطلقت إحدى السيارات المارة نفيرا مزعجا.
ويشير بواب العمارة إلى أن إلي أنها لم تكن تتعامل مع البواب أو السفرجي أو المكوجي أو بائع الصحف وكل المتعاملين مع سكان العمارة بنظرة فوقية، بل كانت دوما تساوي في معاملتها بين الوزير والغفير، ما لم تستشعر استخفافا من الطرف الآخر، ففي هذه الحالة قد تتغير معاملتها 180 درجة.
وأشار أيضا إلى أنها على عكس غالبية الفنانين لم تكن تحب السهر، باستثناء الأيام التي تكون فيها مرتبطة بتصوير، وحينها كانت تصطحب سائقها الخاص ويظل معها طوال فترة التصوير وحتى تعود إلى البيت، فإذا وجدتني نائما في هذا الوقت المتأخر كانت ترفض قيام السائق بإيقاظي، وتفضل فتح المصعد بنفسها، ولقد حزنت كثيرا حينما قررت ترك العمارة والانتقال إلى منطقة جديدة.
نظافة أشيائها
أما العم عاشور «حارس الجراج» لأكثر من أربعين عاما، فأكد أيضا حزنه الشديد حينما قررت الفنانة فاتن حمامة نقل إقامتها من العمارة وترك شقتها لابنتها نادية لتتزوج فيها، لكن عزاءه الوحيد أنها كانت تأتي على فترات لزيارة ابنتها وأحفادها، وساعتها يحرص على أن يكون أول من يقف على باب العمارة في انتظار وصولها كي يراها ويسلم عليها، مؤكدا أنه لا ينسى أبدا عطفها عليه وعلى أولاده في مواقف عديدة.
ويشير إلى أن «الست فاتن» كما كان الجميع ينادونها كانت حريصة جدا على نظافة كل أشيائها، ومن ذلك حرصها على نظافة السيارة وزجاجها وإطاراتها، لذلك «كنت حريصا دوما على أن أبدأ يومي بتنظيف سيارتها حتى في الأيام التي لم يكن مقررا الخروج فيها، كانت دوما تحرص على أن تكون أشياؤها نظيفة في كل وقت ومستعدة لأي طارئ».
متواضعة جدا
التقينا أيضا بـ«نادية» سيدة عجوز تعمل في تنظيف وخدمة احتياجات سكان العمارة، والتي أكدت أنها لم تدخل شقة الفنانة فاتن أبدا، ذلك لأنها كانت تحب الخصوصية، لكن كانت تلتقي بها صباح كل يوم أمام باب العمارة.
وتضيف: وإذا تصادف عدم وجودي أثناء نزول «الست فاتن» كانت تأمر السائق بأن يبحث عني، وحينما آتي مسرعة تسلم علي وتدس في يدي ما تجود به نفسها، لم تكن أبدا كالهوانم المتنمرات اللائي تزدحم بهن «الزمالك»، إنما كانت متواضعة ومتسامحة جدا.
فستان الست
أما الحاج «سعيد» المكوجي المسئول عن العمارة، فأكد أن «الست فاتن» كانت حريصة جدا على أناقتها، ولا تسمح لأي خطأ أن ينال منها، مشيرا إلى أن فساتينها كانت دائما منظمة وبسيطة ومحتشمة حتى في المناسبات الخاصة.
ويتذكر أحد المواقف العصيبة التي تعرض لها حينما تسبب أحد العاملين الجدد في محله في تأخير فستان كانت «الست فاتن» ستذهب به إلى إحدى الحفلات، واتصلت أكثر من مرة تستعجله، وحينما أخبرناها أن العامل تسبب في اتساخ الفستان ومن ثم اضطررنا إلى غسله انفعلت بشدة، وأغلقت الهاتف غاضبة، مشيرا أنه حينما ذهب بنفسه لتسليم الفستان علم أنها ألغت الذهاب إلى الحفل على الرغم من امتلاء دولابها بعشرات الفساتين، لأنها تشاءمت من الموقف، ومع ذلك أصرت على دفع أجرة الفستان بالإضافة إلى «البقشيش»، ولم تقطع التعامل معنا على الرغم من هذا الموقف العصيب، وهذا يؤكد كم أنها إنسانة متسامحة يندر أن تتكرر.