«السيد بدير».. فيلسوف عشش الترجمان

 صاحب آلاف الأعمال مخرجا ومؤلفا وممثلا ومكتشف جيل جديد من الفنانين

«سينماتوغراف» ـ محمود درويش

في عام 1951، استبعد السيد بدير من الإذاعة المصرية بأوامر ملكية بسبب إنحيازه للفقراء، حيث قدم تمثيلية تحكى قصة حاكم طاغ. ولعل نهجه هذا في التعبير عن الكادحين المستضعفين كان هو السبب أيضا في عودته الى عمله مرة أخرى بعد ثورة يوليو 1952 التي قامت اصلا للأسباب ذاتها.

وعاد بدير الى الإذاعة بعد الثورة وفى نفس منصب كريم ثابت مستشار الملك الذى كان سببا فى إقصائه.

لذلك، يرى الدكتور وليد سف في كتابه عن السيد بدير، ضمن سلسلة “خالدون” بمناسبة تكريمه من المهرجان القومي للسينما 2014، أن الظرف التاريخى لعب دورا كبيرا في مسيرة هذا الفنان، حيث ساعدته حركة التاريخ على أن يحقق أحلامه بعد قيام ثورة 23 يوليه والتى أعقبتها نهضة فنية شاملة جاءت متلائمة تماما مع فكره وإتجاهه.

ويشير الكاتب إلى أن عطاء هذا الفنان الشامل يتجاوز حدود السينما منطلقا فى مختلف ساحات الدراما المسموعة والمرئية بسجل يصعب حصره يتضمن آلاف الأعمال مخرجا ومؤلفا وممثلا أيضا.

فهو علاوة على كل هذا الإنجاز الإبداعى الفريد لعب دورا كبيرا كمسئول قيادى فى مواقع ثقافية مختلفة فى الأوبرا والإذاعة والتليفزيون وفرق القطاع الخاص وتوجها بتوليه رئاسة هيئة السينما والمسرح والتى حقق من خلالها نموذجا مثاليا فى الإدارة الواعية والمنجزة.

وقد شكلت مرحلة رئاسته لهذه الإدارة نقلة فنية تاريخية وحركة مسرحية دءووبة خاصة فى مسرح التليفزيون الذى أحال الحركة المسرحية فى مصر إلى شعلة نشاط ولعب دورا كبيرا فى نهضة ثقافيه شهدتها البلاد وظهور جيل جديد من الفنانين تحول بفعل هذا المشروع إلى أبطال ونجوم، بفضلهم أضيئت المسارح وإمتلأت دور العرض السينمائى بجماهير غفيرة أقبلت على تلك الأعمال واستمتعت بها.

فمن خلال هذا المشروع العظيم تم إكتشاف وجوه كانت جديدة وصاعدة وأصبحت راسخة وخالدة مثل فؤاد المهندس ومحمد عوض وعبد المنعم مدبولي وغيريهم كثيرون تسيدوا الساحة الفنية لعقود وأثروها بأعمال كانت وستظل تراثا خالدا ومصدرا للبهجة والمتعة الفنية لأجيال وراء أجيال.

أعمال سينمائية خالدة

وسوف تظل السينما مدينة لمشاركاته الفنية المتنوعة فى أعمال خالدة مثل الأسطى حسن وريا وسكينه والفتوة وحميدو ورصيف نمرة خمسه وجعلونى مجرما واسماعيل يس فى الأسطول وبين السما والأرض وسكر هانم وقائمة لا تنتهى.

فعطاء السيد بدير للسينما لم يتوقف عند حدود عشرات الأدوار القصيرة والمتنوعة التى قدمها كممثل عبر مسيرة فنية طويلة، ولكنه إمتد إلى ممارسة مهن كتابة السيناريو والحوار بغزارة غير مسبوقة ثم الإخراج بتمكن ومهارة وبإنجاز وفير ومتميز، وهو ما يضعه فى مصاف كبار صناع السينما فى مصر عرب تاريخها كله.

ويؤكد الدكتور وليد سيف أن طريق السيد بدير لم يكن مفروشا بالورود ولكنه كان محفوفا دائما بالمخاطر والمصاعب والآلام، وعلى الرغم من هذا أمكنه أن يحقق ما لم ينجزه سابقوه أو لاحقوه وهو ما يجعله فنانا إستثنائيا فى تاريخ الإبداع المصرى.

وإضافة للعامل الشخصى والقدرات الخاصة التى إمتلكها من موهبة وإرادة حديدية، ملك جَلدا على العمل واصل خلاله الليل بالنهار واستغل فيه حتى ساعات التنقل والسفر والإنتظار.

ويرصد الكاتب أن ثقافة بدير تشكلت بالتجربة والإحتكاك والقراءة الحرة والعمل الدائب الذى لا يكاد ينقطع ويفرض عليه اليقظة لأكثر من عشرين ساعة فى اليوم الواحد، وهو أمر منطقى جدا فى ظل إنجازه الغزير. وقد إمتلك بدير ثقافة فنية نضجت على نار هادئة عبر رحلة كفاح مضنية لنفس قوية إمتلكت طاقة على العمل لا تهدأ وأمكنها بهذا أن تصل الى ذروة التمكن والإبداع في فن الفيلم. كما أمكن لصاحبها أن يحقق صولات وجولات ونجاحات لا تعد ولا تحصى فى مجال الإذاعة والمسرح والسينما.

ويشير إلى أن السيد بدير تمكن من التعامل مع وسائط تعبيرية مختلفة بهذا النجاح والتفوق بإدراك واع لتميز كل وسيط عن غيره وبمعرفه علمية بأدواته شكلها عبر الدراسة الحرة والخبربة العملية والإحتكاك والتواصل والتعاون مع فنانين من مختلف الأجيال والثقافات أمكن للسيد بدير أن يستوعبهم ويأخذ منهم ويضيف إليهم فى حوار وتعاون فنى أثمر أعمالا رائعة لصالح الفن والجمهور المصرى.

 

لا فصل بين السيرة الذاتية الفنية

يشير الكتاب إلى أنه فى مشوار حياة السيد بدير يصعب جدا الفصل بين السيرة الذاتية والفنية، فالمسيرة الفنية بدأت مبكرا جدا مع المسرح المدرسى، وإن كان ظهوره الإحترافى المتميز على الساحة الفنية بدأ متأخرا نسبيا فإن هذا يرجع بالتأكيد إلى طبيعة ملامحه التى تمزج بين الطيبة والقسوة وكذلك تكوينه الجسمانى الضخم البدين الذى لم يسمح له مطلقا بالقيام بأدوار البطولة وتتويجها بالنجومية على الرغم من موهبته الكبيرة التى يشهد لها الجميع وأولهم رفاق جيله ومنافسوه.

ولكن شهرة ونجومية السيد بدير تحققت عبر رحلة جهاده وكفاحه وعشقه للفن بمختلف أنواعه ومجالاته وتخصصاته، وبفضل جهوده الدائبة وعزيمته التى لم تلن وموهبته التى أصقلها بالقراءة والدراسة والعمل وراح يطورها ويوسع من مجالاتها طوال رحلته العملية التى إمتزج فيها حبه للفن بعشقه للوطن، والتى عبر من خلالها دون ضجيج أو صخب عن إيمانه بأن نهضة الفن وتنمية الوعى وإمتاع الجماهير هى السبيل لنهضة الوطن عبر الإرتقاء بذوق المشاهد والمستمع ومخاطبة عقله ووجدانه بفن ممتع وبناء، وربما لهذا قال عنه الناقد الساخر الراحل جليل البندارى أنه فيلسوف عشش الترجمان. أما السيد بدير فعلى الرغم من ممارسته مختلف الفنون الدرامية إلا أنه أحب أن يطلق عليه لقب الفنان المكافح لأنه كما قال فى حواره لنعمة االله حسين “مشوار حياتى كان صعبا وشاقا. ولقد وصلت الى ما أنا فيه بعد كفاح مرير وكثير من الجهد المبذول”.

وإذا عدنا الى سيرة هذا الفنان، كما يذكر الدكتور وليد سيف، سنرى أن غالبية المصادر تتفق على أنه ولد فى 11 يناير 1915 بمدينة بلقاس التابعة لمحافظة الدقهلية ومنها إنتقل الى المنصورة – بلد والدته- ثم إلى قرية أبو الشقوق بمحافظة الشرقية، وحين بلغ الثامنة من عمره استقر بالقاهرة. وربما فرضت هذه السياحة الإلزامية المبكرة على مدارك الطفل أن يتعرف على مساحات مختلفة من أرض الوطن وشرائح إجتماعية متنوعة من أبنائه، وأن تلتقط أذناه مختلف اللهجات فى مصر، وأن يعى مبكرا الكثير عن مزاج شعبه وطباعه وعاداته.

أما عن مسيرته التعليمية، فمن المعروف أن أمه حرصت على تعليمه وتحفيظه القرآن منذ صغره بجانب دراسته مثل الكثيرين من أبناء جيله الذين أمكنهم بفضل لغة الكتاب الحكيم وبلاغته وبيانه أن يحسنوا لغتهم ويرتقوا بها وأن يحفظوا عن ظهر قلب أحسن القصص ويتعرفوا على روح الدين السمح بكل ما يدعو إليه من فضائل الحق والخير والجمال، فى زمن لم تكن قد إستشرت فيه بضراوة المفاهيم المختلطة للدين والإتجاهات الرجعية المتشددة المتزمتة.

بكل تأكيد لم يدرك السيد بدير بدايات السينما الصرية الأولى ولم يكن ضمن الرعيل الأول من فنانيها. فظهوره كهاو كان فى النصف الثانى من ثلاثينيات القرن المضى وبدأ مسيرته الإحترافية مع نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، بينما سبقته بدايات السينما المصرية فى مجال الفيلم الروائى الطويل قبل ذلك بأكثر من عقد ونصف، حيث ترجع بداية ظهور الفيلم الروائى المصرى الطويل الى عام 1923 مع العرض الأول لفيلم فى بلاد توت عنخ آمون من إخراج وتأليف وإنتاج فيكتور روسيتو وهو إيطالي الجنسية ومن تصوير المصرى محمد بيومى.

ولكن تعد السنوات التى شهدت ظهور السيد بدير على الساحة هى الإعلان المبكر والإرهاصات الأولى لتحول السينما إلى فن وصناعة حقيقية لها أصولها وتعتمد على قاعدة صناعية وفنانين دارسين ومدركين لقواعد الفن السينمائى ومطلعين على مدارسه العالمية، فتأسيس شركة إستوديو مصر فى منتصف الثلاثينات كان نقطة الإنطلاق الحقيقية لإستقرار صناعة السينما فى مصر عبر كيان قوى لديه خطة إنتاجية وكوادر مدربة وإنتاج منتظم.

وفى ظل هذه الأجواء وتلك النهضة الفنية التى توازت مع سطوع الحركة الوطنية فى مصر كان السيد بدير يؤسس ربما دون أن يدرى لمشروعه الكبير كفنان شامل من خلال إلمامه وبراعته وابداعه في كل الفروع الرئيسة للعملية السينمائية حتى أصبح بالفعل واحدا من كبار صناعها، حيث كانت بداياته كممثل سينمائى في بداية الأربعينيات. ورغم نجاحه وانطلاقته الهائلة كممثل صاحب طبيعة وأدوار خاصة الا أنه لم يكتف بالتمثيل وأصبح من خلال مواهبه المتعددة ممثلا ومؤلفا ومخرجا ومنتجا وقدم سجلا حافالا خلال مسيرته السينمائية التي امتدت لـما يزيد عن 45 عاما شارك خلالها فى مئات الأفلام كممثل ومؤلف ومخرج حتى وصفه النقاد بانه حارس الحرفة الفنية.

فى الواقعية

وقد وصفه البعض أيضا بأنه أحد رواد الواقعية فى السينما المصرية ومن الذين رسخوا لها وأرسوا قواعدها عندما شارك الكاتب نجيب محفوظ والمخرج صلاح أبو سيف وكتب حوار مجموعة هامة من أفلام أبو سيف منها على سبيل المثال (لك يوم يا ظالم) و(ريا وسكينة). كما شارك فى سيناريو بعضها الى جانب الحوار فى (الأسطى حسن) و(الفتوة) ودعم التيار بصورة رائعة فى أفلام لمخرجين آخرين منها ( جعلونى مجرما) و (رصيف نمرة 5) و(انا حرة).

كما كانت له إسهاماته الواضحة فى مجال الفيلم الكوميدى فى أفلام (صاحب الجلالة) و(المدير الفنى) و(المحتال) و(عائلة زيزى) و(إسماعيل يس فى الأسطول). وكذلك فى عدد الميلودرامات الخالدة التى مازالت تحتفظ بتأثيرها (كأس العذاب) و(بائعة الخبز) و(قلوب الناس) و(وداع فى الفجر).

كما أنه كمخرج سينمائى أخرج بإجادة أعمالا تعتمد على كوميديا الموقف وتناقض الشخصيات وبعيدا عن الإسفاف والإبتذال سواء تلك التى تدور فى أجواء الطبقة المتوسطة مثل (سكر هانم) أو تلك التى تتميز بأجواء شعبية حقيقية معاصرة مثل (أم رتيبة).. أو أعمال واقعية إجتماعية تعرب عن رسالتها بأسلوب فنى راق مثل (غصن الزيتون)، وطور أيضا من أساليب المليودراما المصرية فى (كهرمان) والزوجة العذراء وحقق من خلالها نجاحا جماهيريا، كما أنه قدم عملا وطنيا هاما هو (عمالقة البحار) عن موقعة البرلس.

صاحب النهضة المسرحية

ولم تتوقف نشاطات السيد بدير الإبداعية عند حدود السينما بل هو صاحب تاريخ حافل في المجالات الفنية الأخرى فهو مؤلف ومخرج وممثل ومنتج مسرحي وصاحب النهضة المسرحية في مصر في الستينيات من القرن الماضي، بل هو صاحب تاريخ مسرحي حافل، حيث مثل وأخرج وكتب للمسرح ما يزيد على 400 مسرحية. كما أنه كان أحد صناع النهضة المسرحية في الستينيات عندما قام بتأسيس فرق التلفزيون المسرحية عام 1962 وكانت لهذه الفرق الفضل الكبير على نجوم الكوميديا أمثال فؤاد المهندس ومحمد عوض وعبد المنعم مدبولي وأمين الهنيدي، حيث قدموا خلالها أهم أعمالهم المسرحية.

كما تخرج في هذه الفرق العديد من الأسماء التي حققت النجومية الساطعة فيما بعد وعلى رأس هؤلاء عادل امام، سعيد صالح، محمد صبحي، أبو بكر عزت وغيرهم، كما أشرف فى عام 1970 على فرقة أمين الهنيدى المسرحية ثم عمل مديرا فنيا لفرقة الفنانني المتحدين ومثل بطولة إحدى مسرحياتها بإسم الزوج العاشر من إخراج نور الدمرداش، وهو أيضا صاحب تاريخ وانجازات هائلة في التلفزيون، كما أنه قدم للإذاعة مؤلفا  وممثلا ومخرجا أكثر من ثلاثة آلاف عمل اذاعي، وكل هذا جعل الوسط الفني في مصر من فنانين ونقاد يطلقون عليه لقب “الفنانين” السيد بدير فهو بالفعل لم مجرد فنان واحد بل مجموعة من الفنانين تسير على قدمين.

Exit mobile version