جدة ـ «سينماتوغراف»
ليس مجازاً أن نقول إن العرب أمة تتنفس الشعر، استخدموا فيها القصيدة وأبياتها كأداة راقية لنقل همس الإنسان للإنسان، لكنها باتت قصيدة مرئية، بعد علاقة جمعت القصيدة بالفن السابع، لتشكل الصورة المجازية بصرياً.
علاقة السينما بالفنون التقليدية، مثل الموسيقى والرسم والنحت والرقص، هي علاقة مألوفة، لكن علاقة السينما بالشعر ليست اعتيادية، ولا سيما إن كانت لحظات الفيلم ستستعمل لوصف الحالة الشعرية، بما تحمله من مجازات واستعارات وكنايات، في حالة معقدة تصل بمستويات الكثافة والإيحاء إلى أعلى مستوياتها.
السينمائيون والشعراء والمثقفون سيكونون على موعد مع السينما الشعرية، من خلال مهرجان «أفلام السعودية»، حيث ستكون محوراً للدورة الثامنة التي يحتضنها مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي إثراء خلال الفترة من 2 إلى 9 يونيو المقبل.
ووفقاً لتفاصيل المؤتمر الصحافي للإعلان عن المهرجان، سيسلط الضوء على تيار صاغ الدهشة بصرياً، برمزية جمالية، ودلالات فلسفية، ودلالات ورموز تحفز الخيال الإبداعي، حيث اتخذ المهرجان من موضوع السينما الشعرية هويته البصرية، إضافة إلى أنه سيقدم برنامجا خاصا لعروض أفلام عالمية من قلب هذا التيار بمختلف تشكلاتها الفنية، طيلة أيام المهرجان.
«الفيلم القصيدة» كان اسما للسينما الشعرية، وفيه يدمج الحوار أو السرد الشعري المنطوق مع الصور البصرية والصوت ليوجد تمثيلا أقوى، وتأويلا للمعنى المراد توصيله.
وفي تعريفنا لمفهوم «السينما الشعرية»، لا يعني أن نعالج القصيدة سينمائيا، مثل فيلم «تروي» الشهير المبني على النص الشعري الملحمي لهوميروس في الإلياذة، بل هي سينما تفكير، فالمشاهد مطالب بأن يفكر ويحلل وأن يحس، كأهم سمة، مثلما يعبر إنجمار بيرجمان المخرج السويدي.
كما أن السينما الشعرية معالجة الفيلم بجميع أبجدياته معالجة شعرية من الجذور تتناص مع المفاهيم الشعرية، ومحاولة كتابة قصيدة ما بالأدوات البصرية.
أندريه تاركوفسكي المخرج والكاتب الروسي في كتابه «النحت في الزمن»، يعرف لنا التعبير المألوف والشائع «السينما الشعرية»، ويقول «إنها السينما التي تبتعد بجسارة في صورها عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية»، وفي الوقت نفسه، تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة، لكن ثمة خطرا متواريا يواجه السينما في ابتعادها عن نفسها، «السينما الشعرية» عادة تلد رموزا، مجازات ومظاهر أخرى، أي أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما.
وعبر ترجمة أمين صالح الروائي البحريني القدير يكشف لنا عن تصعيد الشعور وتعميقه، إذ يصير المتفرج فعالا أكثر، ويصبح مشاركا في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعما من قبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف المتعذرة مقاومتها، تحت تصرفه فقط، ما يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركبة المعروضة أمامه، كما أن السينما الشعرية تكمن بعيدا جدا عن النظريات أو التعريفات، ووراء نطاق المعاني أو التأويلات. لا قوانين تحكمها ولا أعراف أو تقاليد، فيما ينشأ جذر الشعرية في السينما من الاستجابة العاطفية المباشرة التي تستمدها السينما، والأفكار التجريدية التي بإمكان السينما ربطها، وابتكار مجازات فيها.
في توصيف السينما الشعرية، لا بد أن نعرج على أفلام نبعت من هذا الفن، مثل فيلم «دم الشاعر» الذي كتبه ومثله وأخرجه جان كوكتو، وفيلم «ساعي البريد» للمخرج ردفورد، منطلقا من سيرة نيرودا، إلى جانب أفلام عربية تمكنت من إيجاد شاعريتها الخاصة، وتتخذ صفة قصائد بصرية يمكن مشاهداتها.
يقول صالح في كتابه الصادر عن مهرجان أفلام السعودية شعرية السينما، «إن الشعر اللغوي فعل انفرادي، متوحد، بينما الشعر في الفيلم فعل جماعي، يشارك فيه المصور ومصمم المناظر والمونتير وآخرون، وهم يسهمون في العنصر التقني لشعرية الصورة، بخلاف الشاعر، المخرج السينمائي يتعامل مع عدد من الفنيين والممثلين في تحقيق الفيلم، وعلى المخرج أن يتعامل بوعي وفهم مع ذوات متنوعة، وحساسيات مختلفة ورؤى متعددة، التي ينبغي أن تتوافق مع رؤية وأسلوب المخرج، من أجل إبداع عمله بصورة قوية وسلسة».
يعلق حميد عقبي السينمائي والشاعر اليمني، الحاصل على شهادة الماجستير في الإخراج السينمائي والمسرحي من جامعة كون الفرنسية، عبر رسالته حول السينما الشعرية، في أحد مقالاته معرفا السينما الشعرية، فهي لا تعني أبدا أن نعالج قصيدة شعرية سينمائيا، فقد تتم معالجة إحدى القصائد الشعرية وقد لا يكون الفيلم فيلما شعريا، والحوار الشعري في الفيلم لا يعني أبدا أن الفيلم شعري. «السينما الشعرية» هذا المصطلح الصعب الذي أطلقه بازوليني المخرج الإيطالي وتحدث عنه جون كوكتو المخرج الفرنسي، حيث يؤكد بازوليني أن السينما أداة للتعبير قادرة على إيصال الأفكار والأحاسيس، والسينما الشعرية هي سينما تتعمق في الوضع الاجتماعي بطريقة تحليلية فلسفية نقدية، وقد يثير هذا التحليل كثيرا من النقد، وأكثر السينمائيين الشعراء يمزجون بين أفكارهم الشخصية الذاتية وفلسفتهم الخاصة وأحاسيسهم مع الفلسفات والأساطير، أي أن الفيلم الشعري لا يعتمد على قواعد مكتوبة في الإخراج السينمائي، فهذا الاتجاه أثار كثيرا من الاضطراب وخلط عديد من الأوراق.
ويضيف عقبي «في كل لقطة من لقطات الفيلم الشعري أمامنا رمز، وقد نختلف في تحليله وفهمه، وقد نعجز أحيانا في الوصول إلى إجماع، فالمعنى سيظل في عمق الشاعر، ويحرص كثير من المخرجين على ترك كل شيء كما هو، ويظل هذا الغموض مغامرة ممتعة عند كل مشاهدة».
يفصل بيير باولو بازوليني السينمائي الإيطالي بين الشعر والسينما، وهو أحد رواد هذا الفن الذي نشأ في ستينيات القرن الماضي، فالفن السابع يشبه الشعر وموسيقاه، لكن السينما هنا تواجه صعوبة في تحويل الصورة الساكنة إلى جمل شعرية، وكان بازوليني يرغب في فهم العالم وإرغام السينما على استيعاب النموذج اللغوي المتمثل في القصائد.
ويعد تشكيل القصيدة بصريا عملية معقدة، إذ يقول سينمائيون إن هذا النوع من الأفلام قادر على إظهار حقيقة اللاواقع واللامعقول، هو فعل يربط بين المتفرج والصورة، فكل قطعة ديكور أو اكسسوار هي استعارة لمنع وجود معنى واحد محدد للقطة، هذا التشويش يدفع المتفرج إلى الانتباه والتأمل واستخدام الخيال للفهم والإحساس وإدراك المعاني المتعددة.