«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
ظل تاريخ السينما المصرية لفترة طويلة يعتمد على الاجتهادات الشخصية لبعض معاصري السينما والتي كانت كتاباتهم نوعاً من الانطباعات الشخصية، فقد ظهر تباين واضح في تناول الوقائع التاريخية وعمق ذلك عدم وجود مواد مسجلة يمكن الرجوع إليها في حالة التاريخ مثلما ظهر الخلاف في تحديد تاريخ أول عرض سينمائي في مصر.
لكن الروائي والمترجم وكاتب الأطفال والناقد والمؤرخ السينمائي محمود قاسم استطاع بموسوعاته المتعددة أن يشغل مساحة مهمة في المكتبة السينمائية ظلت شاغرة لسنوات عدة، واليوم يأخذنا من خلال قراءاته ومشاهداته ومخزون ذكرياته إلى عالم الأفلام وعلاقاتها بحياته والناس.
السينما عشق محمود قاسم، يحاول جاهداً مضاعفته بالقراءة ومشاهدة كل الأعمال العالمية، حيث يعيش حالة حب مع مكتبته التي يعتبرها ثروته الحقيقية، فعندما كان في الحادية عشرة من عمره كان يقتني الكتب بكل عناوينها، العلمية والتاريخية والأدبية والفلسفية.
منذ أن اكتشف سحر الكلمة لأول مرة أصابه جنون الاقتناء وإهداء الآخرين الكتب لكي يستمتعوا بها، على اعتبار أن الكتاب هو الحب المشترك بينه وبين الآخرين. لكن النقطة الفاصلة في تاريخ مكتبته حينما تعرف على أماكن لبيع مرتجعات المجلات والكتب القديمة، فوهب كل ما لديه من مال لشراء مثل هذه المرتجعات لعمل ملفات مرجعية بأكثر من لغة عن أدباء العالم وعن السينما العالمية والفن التشكيلي والتاريخ السياسي، وهذه الهواية لم تتوقف حتى الآن.
محمود قاسم الذي يُعرف بمتابعته واهتمامه الشديد بالسينما كتب 3 موسوعات سينمائية تمثل مرجعية مهمة للعاملين في المجال الفني، حاورته (سينماتوغراف) عن تأثير السينما في المجتمع ومدى مساهمة الأفلام في تشكيل قيم ووجدان المشاهدين؟ فكانت هذه الوقفات في السطور التالية.
تاريخ الاقتباس
(السينما الأميركية هي الأُم الروحية للسينما في مصر، فالمقتبس يأخذ الحدوته ويفبركها حسب رؤيته الخاصة، ثمَّ يصنع عملاً جديداً، ولا مانعَ أنْ يكتبَ بعد ذلك اسمهُ كمؤلف، فلا أحد يراجعه، أو يحاسبه).
يرى الناقد محمود قاسم أن السينما الأميركية تهيمن بقوة على كل أنواع السينما في العالم، والدليل على ذلك هو الأعمال المقتبسة التي تعرض في مصر، فكل عام يعرض أكثر من فيلمين أو ثلاثة مقتبسة من أفلام أجنبية، وهذا دليل على نجاح التجربة الأميركية.
وقد قمت بإحصاء تاريخ الاقتباس في السينما المصرية بين عامي 1933 إلى 1997، فأحصيت 180 فيلماً كان أولها «أولاد الذوات» ليوسف وهبي المأخوذ عن المسرحية الفرنسية الذبائح، أما آخرها عام 1997 فكان «عيش الغراب» للمخرج سمير سيف المأخوذ عن الفيلم الأميركي على «خط النار».
فالسينما المصرية منذ نشأتها وهي تعتمد على أفكار الأفلام الغربية ففي ثلاثينات القرن الماضي لم يقتبس من الأفكار سوى القليل ولكن مع مرور الوقت تزايدت ظاهرة الاقتباس حتى وصل الأمر إلى افتقاد الإبداع والابتكار والاستسهال، لافتاً إلى أن الإفلاس الفني هو السبب وراء اتجاه المؤلفين إلى سرقة الأفكار وأرجع ذلك إلى الأزمة التي تعيشها السينما المصرية المتمثلة في الافتقار إلى نصوص مبتكرة.
أفلام العنف
(من الأخطاء الشائعة لدى بعض السينمائيين هو اعتقادهم بأن أفلام العنف بضاعة رائجة في السينما، يقبل عليها المشاهد والمعلن على السواء، في حين أن تلك الأفلام تؤدي إلى زيادة العنف والجريمة).
يؤكد محمود قاسم أن السينما صورة من الواقع وربما تسبقه أحياناً، فلو نظرنا إلى الجرائم البشعة التي تحدث اليوم، وقرأنا صفحات الحوادث سنجدها مليئة بالعنف والدموية، والسينما من جانبها تجسّد تلك الحوادث أو الجرائم بتفاصيلها وأبعادها كافة.
والخطورة تكمن في تجسيد السينما للعنف بصورة نافرة أكثر من الواقع، وهذا يعود إلى تأثر عدد كبير من المخرجين المصريين منذ بداية ثمانينات القرن الماضي بالسينما الأميركية، وتحديداً مع أفلام الحركة والمطاردات.
التابوهات الثلاثة
(من الصعب أن تجد فيلماً أجنبياً أو عربياً يخلو من الإثارة، حيث جعل السينمائيون الجنس ضرورة لنجاح الفيلم وإلزام الممثلات ببعض حركات الإغراء الجسدي لجذب المشاهدين).
الجنس والدين والسياسة من التابوهات التي ترفضها الرقابة في السينما، كما يقول محمود قاسم، ورغم ذلك فإن السينمائيين يجدونها فرصة لجذب المشاهدين، فأصبح من الطبيعي الدخول في مشاجرات مع الرقابة لتجيز عمل معين به التابوهات الثلاثة أو أحد عناصرها، وهنا يأخذ العمل شهرته من أنه ناقش كل الممنوعات، ويسترسل قاسم قائلاً: السينما سلاح فكري من الطراز الأول.
ومن أقوى الأسلحة الفكرية التي تنفذ إلى عقل مشاهديها بسهولة لتؤثر فيهم وفي المعتقدات والأفكار لديهم، وهي صياغة للعقول ولا يمكن أن نعتبرها فناً لمجرد الترفيه والتسلية، فمن يسيطر على السينما يسيطر على أقوى وسيلة للتأثير في الشعب فهي تؤثر في الملابس والسلوك، بل حتى المظهر البدني للجمهور.
موضوعية النقاد
(يشكل النقد السينمائي منطلقاً فكرياً قادراً على إحداث تغييرات إيجابية إذا ما تمت الاستفادة منه بأسلوب بناء، لدعم تطور الحركة السينمائية في المنطقة، التي ما زالت في مرحلة التأسيس وتأمل في النمو والازدهار).
مدخل أراد من خلاله محمود قاسم أن يؤكد أهمية النقد السينمائي ومساهمته في نمو السينما العربية، لافتاً إلى أهمية أن يتحلى النقاد بالموضوعية وأن يمتلكوا فهماً عميقاً للثقافة السينمائية العربية ليسهموا بدور فعال في حفز نمو وازدهار المشهد السينمائي في المنطقة.
ويوضح قاسم أن النقد الفني وسيلة مهمة جداً للحفاظ على السينما التي تمكنت من اقتحام أبواب عالم الرواية والأدب بشكل عام، للوصول إلى رغبات وأحلام حاولت تجسيدها بعدة تقنيات محاولة تحطيم بنية السرد، وبناء عصر آخر يتداخل فيه الزمان والمكان كي تتحقق رؤية الأديب من وجهة نظر السينمائي، لذلك فالنقد هو الذي يساعد الأديب للوصول إلى أفضل نتيجة لتحويل الرواية إلى عمل سينمائي مهم.
أعمال المخدرات
(في إطار التأثير والتأثر للسينما على جمهورها، كان الاهتمام بأعمال المخدرات وتحذير المجتمع من خطورة هذه الظاهرة التي تهدد وتتغلغل في جميع الشرائح، وصنعت السينما منها ولها العديد من الأفلام المهمة).
يشير محمود قاسم إلى أن أفلام المخدرات عامة تنقسم إلى قسمين؛ أفلام التهريب، وأفلام التعاطي، لافتاً أنه في الفترة الحالية يتم تقليل مثل هذه النوعية من الأفلام مقارنة بعقد الثمانينات مثلاً، لأن الاهتمام لم يعد بالمخدرات، ولكن أصبحت هناك قضايا أخطر مثل الدعارة وقتل النفس والشجار بين الإخوة، وغيرها وهذه الأفلام التي تم إنتاجها كانت عاملاً مهماً في حياة الجمهور عندما كانت سبباً في ابتعاد الجمهور عن هذا الكيف، خاصة أنها قدمت مع نوع من الكوميديا التي كانت مؤثرة في الجمهور.
وكانت أفلام المخدرات متواجدة بكثافة في السينما المصرية منذ فيلم «كوكايين» إنتاج سنة 1391، لكن العصر الذهبي لها كان حقبة الثمانينات بلا جدال، حيث شهد إنتاج أفلام مثل «الكيف» بطولة محمود عبد العزيز ويحيى الفخراني وتدور أحداثه حول شقيقين تضطرهما الظروف لإنتاج المخدرات والتجارة فيها.
وأيضاً فيلم «العار» بطولة محمود عبد العزيز ونور الشريف وحسين فهمي، وتدور أحداثه حول الأب الذي يترك لأولاده إرثهم مخدرات، وكيف أضاعت عقولهم عندما ضاعت في الماء وضاعت معها أحلامهم، وغيرهما الكثير الذي يدور في عالم المخدرات والإدمان.
الرومانسية والحب
(أفلام العصر الحالي تميل إلى الأكشن والإثارة، وهي نوعيات تظهر جانب السلبية في المجتمع وابتعدت بفن السينما عن الرومانسية والحب أو الاقتراب من مشاكل الناس الحقيقية دون تزويق).
يرتبط الناقد محمود قاسم ارتباطاً كبيراً بفيلمي «بنات اليوم» و«واحدة بواحدة»، ارتباطاً يكمن في الحالة الوجدانية الرومانسية التي يقدمها كل منهما، فكما يقول فإن فيلم «بنات اليوم» بطولة عبد الحليم حافظ وماجدة، يعرض قصة حب غير مكتملة الأركان وفي الوقت نفسه يقدم تضحية مثالية يغلفها جو إنساني وعائلي بديع تستكمله أنغام أغنيات عبد الحليم حافظ.
بالإضافة إلى الشكل الفني الراقي الذي خلف مضمون القصة والذي قدمه المخرج هنري بركات في فترة زمنية كادت الرومانسية فيها تختفي في ظل الأوضاع السياسية التي تحيط بالمجتمع المصري في فترة منتصف الخمسينات.
أما فيلم «واحدة بواحدة» فيقول قاسم أنه من نوعية أفلام الكوميديا، أنتج عام 4891 بطولة عادل إمام وميرفت أمين، وهذا الفيلم يستخلص نوعاً معيناً من الكوميديا التي تشبه رومانسية الفرسان في صنع المقالب بين المحبين بدافع الحب والمشاكسة، والفيلم في الأصل مأخوذ عن الفيلم الأجنبي «رفيقة الوسادة»، وقام بتمصيره وكتابة السيناريو له وإخراجه، المخرج نادر جلال.
ويعرف الفيلم بين المشاهدين من الأجيال المختلفة باسم «الفنكوش»، ما يؤكد نجاح تداول قصص أفلام الكوميديا المقتبسة من أفلام أجنبية في فترة الثمانينات والتي تمتد إلى وقتنا هذا، ولا ندري لماذا بالتحديد الأفلام الكوميدية التي تقتبس من أعمال أخرى أجنبية هي التي تنال شهرة ونجاحاً واسعين، على عكس بعض الأفلام التي اقتبست من أفلام ذات قصص درامية أو بوليسية لكنها لم تلق نفس النجاح والترحيب والمعايشة التي تحققها أفلام الكوميديا في ذهن الجمهور.