«سينماتوغراف»: انتصار دردير
تخرج في كلية الحقوق وتدرج حتى أصبح مستشارًا بمجلس الدولة، ومن ثم نائبًا لرئيس المجلس، وعلى الرغم من نجاحاته المهنية أفرد حياته كلها للسينما عازفًا حتى عن الزواج، لخوفه من أن تشغله الزوجة والأبناء عن عشقه الأبدي للفن السابع.
عندما تدخل إلى شقته في منطقة «باب اللوق» وسط العاصمة المصرية تشعر وكأن قدماك قادتاك إلى متحف سينمائي يضم كرنفالاً متنوعًا من أهم ما أبدعته مدارس السينما في العالم، كما تطل شقته على اثنتين من أهم دور العرض السينمائي في مصر، يستيقظ يوميًا لتصافحهما عيناه، باحثًا عن أي جديد ليبادر بمشاهدته مرات ومرات في ممارسة يراها واجبًا يوميًا مقدسًا.
الناقد السينمائي مصطفى درويش ـ أشهر رقيب عرفته السينما المصرية حيث شهدت الرقابة في عصره حرية كبيرة ولم تقف عائقا في وجه الإبداع ـ في بيته تستقبلك صور جميلات السينما العالمية في أبهى أشكالهن، لكن ببورتريهات أبيض وأسود لأنه يرى أن الألوان تفقد الأشياء جمالها مثلما فعلت الألوان في التأثير على اهتمام المخرجين والمنتجين في اختيار السيناريو.
يلفت النظر إليه إيمانه الشديد بجمال «مارلين مونرو» التي يضع لها أكثر من صورة على حائط منزله، وفي الجهة المقابلة تجد مكتبته التي لا يعرف الزائر كيف يسير بين كتبها وأقراصها المدمجة وجهاز الـDVD الذي يحافظ على تشغيله يوميًا لأكثر من 6 ساعات، وبجانب ذلك يستمع إلى السيدة فيروز ليكتب على صوتها أراءه النقدية التي يطلقها للجمهور ليوجهه إلى الفيلم الذي يستحق المشاهدة، لأن الناقد في رأيه بوصلة الحيران إلى ما يستحق المشاهدة في الفن السابع، وينشغل دائمًا بهموم السينما والسينمائيين منذ تولى الرقابة خلال فترة الستينات، وكما كان مستشارًا بارعًا في القانون كان مستشارًا حاذقًا في الفن وهذا ما سيتعرف عليه قارئ (سينماتوغراف) في هذا اللقاء.
تأثير عكسي
(أرى أن السينما تأثرت كثيرًا بدخول التليفزيون ساحة استقطاب الجماهير، وكذلك بالطفرة الحياتية والتقنية التي جعلت الأمور تختلف في ملمسها وما تضفيه تكنولوجيتها من مؤثرات وإبهار).
أسباب عديدة يراها الناقد مصطفى درويش كانت سببًا في عزوف الجمهور عن الذهاب إلى قاعات العرض السينمائي منها ارتفاع أسعار تذاكر الدخول، ما يعني أن من يريد مشاهدة فيلم مع أسرته المكونة من أربعة أفراد على سبيل المثال عليه أن يدفع نحو 50 دولارًا في ليلة واحدة.
وبالتالي كان البديل في متابعة قنوات التليفزيون التي تزايدت يومًا بعد يوم مع مئات الفضائيات العربية الجديدة، أيضًا من الأسباب الطفرة الحياتية التي تضاعفت معها أوجه الترفيه وسبله، بينما كانت السينما في السابق هي وحدها الفسحة الترويحية للأسرة، وكذلك الطفرة التقنية، فبإمكان من يمتلك DVD أو جهاز كمبيوتر أن يشاهد ما يرغب من أفلام سينمائية دون حاجة ماسَّة للذهاب إلى دور السينما، وهنا أصبح تطور وسائل التكنولوجيا وسيلة لإبعاد الناس عن سحر السينما عكس ما كان في السابق عندما كان الجمهور يعتبرها وسيلة استمتاعه الأولى، وكان يسافر من مدينة إلى أخرى ليتمكن من الحضور إلى السينما أو المسرح.
رغبة التوازن
(الإنسان اخترع الفن حتى يحدث له نوع من التوازن، والفن يؤثر في المجتمع لأن الإنسان لم يبتدعه إلا رغبة في التأثر به، معادلة شد وجذب بين الفن وإشكاليات الإنسان في هذه الحياة تستحق التأمل).
يرى الناقد مصطفى درويش أن تأثير السينما على عشاقها بات أكثر سلبية في الفترة الأخيرة. خاصة مع موجة أفلام الإسفاف التي اجتاحت السينما العربية خلال السنوات الأخيرة بمثل أفلام محمد سعد الشهير بـ«اللمبي» أو تلك الأفلام التي يهدف المنتجون من ورائها جمع أكبر قدر من الإيرادات عن طريق زيادة البهارات في مشاهدها الإغرائية، فهي تؤثر حتى في أزياء الشباب كما فعل «كلارك جيفر» الذي جعل موضة الشباب «فانلة حمالات»، وبالتالي أصبحت الأخلاق العامة في تدهور مستمر لاسيما نتيجة الأفلام التي تعتمد على الأكشن الزائف.
ومع ذلك تظل السينما هي أكثر الفنون شعبية، لأنها متاحة لكل الفئات فلا يمكن أن يجتمع الكل على أغنية أو حتى مقطوعة موسيقية لبيتهوفن، أو يذهبوا إلى عرض أوبرالي، أو مسرحي، لكن الجميع يجمعون على مشاهدة الأفلام السينمائية، وليس خافيًا أن تأثير السينما جعلت الساسة والحكام يخشونها، لأنها تخطط لحياة جماهيرها..
الرقابة أزمة
(السينمائيون تسببوا في أزمة السينما المصرية، لأنهم يتعاملون مع الرقابة بمنطق الفرق، واختلفوا وخافوا عندما منحتهم الرقابة في عهدي حرية كبيرة ولو استثمروها جيدا لكان هناك فرق حاليا شكلا ومضمون).
ردًّا على مكانة الفيلم المصري بين السينما العالمية أكد أن تأثيره تراجع كثيرًا وفقد توازنه في السينما العالمية، مبررًا ذلك بأن صانعي السينما المصرية يعتمدون على التراجع أمام الرقابة، ويوضح: «عندما كنت رقيبًا طالبت بالجرأة في عرض الأفلام.
كانت الرقابة قد ظهرت للمرة الأولى في شيكاغو الأميركية وبعدها فرنسا بعد معركة تسبب فيها فيلم «الراهبة» الذي كشف عورات الكنيسة الكاثوليكية لكن تم إلغاؤها بعد ذلك، وعندما كنت مديرًا للرقابة في بداية الستينات منحت الحرية للأفلام المصرية والأجنبية لخلق تنافسية بينهما، لكنني فوجئت بقطاع كبير من السينمائيين يقفون ضدي لخوفهم من المنافسة، الغريب أن السينمائيين المصريين لا يتعلمون، ولا ينظرون إلى دولة مثل إيران تعتبر من أكثر الدول تشددًا في الرقابة، ومع ذلك أفلامها تنافس في العالم كله، لأن السينمائيين فيها تمكنوا من جمع الرأي العام حولهم».
رحلة طويلة
(رحلة ممتدة تعدت الثمانين عاما هي عمر انشغالي بمشاهدة السينما وتأثيرها، قضيت منها أكثر من أربعين عاما في الكتابة عن السينما وأعمالها، منذ مقالتي الأولى في روز اليوسف عند بداية الستينات).
ويقول عن إيمانه بالسينما أنها هوايته الأساسية، وأنه لم يفكر يومًا في الزواج حتى يكرس حياته لكتابة آرائه التي يتبرع بمعظمها ولا يعتمد عليها في دخله المادي لأن السينما هي كل حياته، ويستعد للاحتفال باليوبيل الذهبي لكتاباته منذ تجربته النقدية الأولى في بداية الستينات.
ويرفض بشدة أن يكون هدف السينما الأول هو التسلية، موضحًا أن هدفها الرئيسي إعطاء المعلومة، ونقل الواقع من خلال الكاميرات، ويظهر ذلك ضمن الأفلام التسجيلية الروائية القصيرة والطويلة، كما ينتقد موقف السينما من التركيز على الابتذال على حساب المضمون، ويشدد على ضرورة أن تحقق السينما الجانب المتوازن، ويشيد في هذا الصدد بفيلم «الحرب والسلام» الذي عزز كراهية الناس من الحروب.
الأعمال المصرية
(فيلم «المومياء» للمخرج شادي عبد السلام حالة فريدة من نوعها لن تتكرر، خاصة بعد أن أجهضت محاولة فيلم «إخناتون» بالطريقة نفسها، والتي كانت من الممكن أن تصنع عملا يخلد في ذاكرة السينما).
حياة الناقد الفني مصطفى درويش مليئة بالمتغيرات، فرغم اهتمامه بالكتابة جيدًا عن أي فيلم مصري، إلا أن أهم فيلم تأثر به هو «وداد» وهو أول أفلام سيدة الغناء العربي أخرجه الألماني «فريتز كرامب»، موضحًا أنه على الرغم من ضعف الفيلم فنيًا إلا أنها المرة الأولى التي بدأ ولعه بالسينما لرؤية أم كلثوم وجهًا لوجه أمام عينه.
أما «المومياء» وهو فيلم مصري من إنتاج السبعينات، يتناول قضية سرقة الآثار المصرية، ونال الكثير من الجوائز الدولية واحتفلت به مهرجانات عالمية، ويعتبر أحد أفضل مائة فيلم مصري، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت في أواخر القرن الثامن عشر، حول قبيلة «الحربات» في صعيد مصر والتي تعيش على سرقة وبيع الآثار الفرعونية، وعندما يموت شيخ القبيلة يرفض أولاده أمر السرقة فيُقتل الأول على يد عمه بينما ينجح الثاني في إبلاغ بعثة الآثار عن مكان المقبرة التي تبيع قبيلته محتوياتها.
يرى الناقد أن هذا الفيلم حالة خاصة في تاريخ السينما المصرية، ذلك أنه محا داء الاستسهال والاستسلام لقوانين الرقابة التي اعتاد عليها البعض، وشهد الفيلم حالة عناء شديدة لمؤلفه ومخرجه، وتم مونتاجه بطريقة فنية متميزة جعلت من نجوم العمل عجينًا في يد المخرج يفعل فيهم ما يشاء، وكان من الممكن أن تستكمل مسيرة هذه الفيلم العبقري بالفيلم الآخر الذي شرع مخرجه شادي عبد السلام في الإعداد له وهو «إخناتون» لولا أن حلمه أُجهض.
طريق الحجز
(ويضيف: تأثرت أيضًا بالفيلم الأميركي «طريق الحجز» وهو من نوعية دراما الجريمة تم إنتاجه عام ألفين وسبعه، أخرجه تيري جورج وبطولة خواكين فينيكس، مارك روفالو، وجينيفر كونيلي).
الفيلم مقتبس من رواية بالاسم نفسه للمؤلف الأميركي جون برنهام شوارتز، وتدور أحداثه في إطار درامي شائق منذ البداية وحتى النهاية غير المتوقعة.
والتي تعطي انطباعًا بأن الفيلم غرضه تعليمي وإرشادي في المقام الأول، تبدأ الأحداث في ليلة صيفية من شهر سبتمبر بالعائلة العادية جدًا والمتماسكة جدًا متوسطة الحال والتي تتكون من الأب «إيثان ليرنر» خواكين فينيكس، والأم «جريس ليرنر» جينيفر كونيلي، والابنة «إيما» إيل فانينغ، والابن «جوش» شين كورلي، وتذهب العائلة لمشاهدة حفل موسيقي يشارك فيه الابن «جوش» العازف الناشئ، وفي طريق العودة يتوقف الأب في إحدى محطات الوقود ويترك الابن في السيارة.
تنتقل كاميرا الفيلم في هذه الأثناء إلى المحور الثاني الذي يرتكز عليه الفيلم وهو المحامي «دوايت أرنو» مارك روفالو، الذي يرافق ابنه إلى إحدى مباريات البيسبول لفريقهما المفضل «ريد سوكس»، ويقوم بدور الابن «لوكاس» أيدي انديرسون، وفي طريق العودة من المباراة يحدث للأب ما يغير مجرى حياته للأبد وهو صدمه للطفل «جوش» الذي خرج من السيارة بالصدفة في الوقت نفسه الذي جاءت فيه للمحامي مكالمة هاتفية من زوجته السابقة التي سببت توتره الشديد وأدت في النهاية إلى قتل الطفل لتبدأ الإثارة الفعلية في مواجهات أحداث الفيلم المتبقية والتي تزداد جرعة الدراما فيها.