الشباب فى سينما هنرى بركات

الشباب فى سينما هنرى بركات
رحلة البحث عن الحب والحرية واليقين
“سينماتوغراف” ـ أمجد جمال
 
لم يكن هنرى بركات الوحيد بين المخرجين الذين عُرفوا بإنتاجهم الغزير، فهو قدم ما يزيد عن ثمانين عملاً فنياً، لكن لم يضاهيه أحداً بين هؤلاء المخرجون فى درجة الإتقان وإحكام المعادلة بين الكم والكيف خاصة فيما يتعلق بما هو بصرى، تميز أسلوبه بالشاعرية وجمالية الصورة حتى مع الأفلام ذات النزعة الواقعية مثل “الحرام” و “أفواه وأرانب” أو الدراما المأساوية مثل “دعاء الكروان”، كما تنوعت أفلامه بين الكوميدى والتراجيدى والميلودرامى والموسيقى. لكن الملمح المميز فى سينما بركات هو الشباب ، وتحديداً شباب المدينة .. كيف رآهم، وكيف قدّمهم.
 
أبرز أفلام بركات التى اتخذت من شباب المدينة محوراً لأحداثها هى “أيام وليالى”، “بنات اليوم”، “فى بيتنا رجل”، “الباب المفتوح”، وقد تنوّعت إطاراتها بين الرومانسى والسياسى والإجتماعى والتشويقى، ولكن بقى همّها الأساسى هو الشباب، أحلامهم، تطلعاتهم، مخاوفهم، كيف يحبون وكيف يكرهون، وإن كان أول فيلمين قد إفتقدا للنضج الكافى لإعتبارهما وثائق تأريخية عن شباب تلك الحقبة الزمنية إلا أنهما ربما بإفتقادهما لذلك النضج قد عبرا فى ذاتهما عن الجموح والجنون والبراءة والروح الحالمة التى لخصها مشهد عبد الحليم حافظ داخل قارب نهرى منشداً “أنا لك على طول” للفنانة إيمان فى عوّامتها ومعلناً بذلك تحديه للقيود الإجتماعية التى تمنعه من التواصل مع الفتاة التى تعجبه، كما الحال مع غيره من شباب تلك الفترة الذين تحمسوا لمشاركته فى أداء أغنية “توبة” داخل أسوار الجامعة فى مشهد ينبض بالشباب والحيوية المتطلعة نحو الجنس الآخر، مستجدية الحب والمشاعر “بس قابلنى مرة وتبقى دى آخر نوبة”.
 
نفس الدور لعبته أغنية “أهواك” فى “بنات اليوم” بين عبد الحليم وماجدة، قبل أن تنجرف العلاقة فى الفيلمين إما إلى منزلق الميلودراما أو أن تقف ألاعيب الحبكة التقليدية عائقاً للتواصل بين الأحبّة، فى الفيلم الأول عن طريق حادثة سيارة إرتكبها أخ البطل قلبت الأحداث رأساً على عقب، وفى الفيلم الثانى عن طريق الغيرة والدسائس بين الشقيقتين، وهو ما أفقد الفيلمين صفة الجدية فى مناقشة الحلم الشبابى، كما أفقدهما التصنيف الإجتماعى، رغم ذلك فقد كانا بمثابة نقطة البداية فى الإنطلاق نحو تجربتين أخرتين أكثر عمقاً وتأثيراً فى سينما بركات الشبابية، “الباب المفتوح” و”فى بيتنا رجل”.
 
يمكن تلخيص التيمات الرئيسية لهذين الفيلمين داخل ثلاثة مفاهيم وقيم مجردة، هى اليقين والحب والحرية، بجانب العلاقة المعقدة فيما بين هذه المفاهيم. فشخصية فاتن حمامة فى “الباب المفتوح” تبدأ مفتقدة لليقين، تتسائل بيأس فى حوار مع أخيها المتحرر عما هو الصح والخطأ بعد مشادة بينها وبين أبيها إنتهت بضربها لأنها “بنت ومشيت فى مظاهرة”، وتجدد تلك الحيرة فى رحلة بحثها عن اليقين فى مشهد آخر من خلال حوار مع صديقاتها يعقدون فيه مقارنة بين بنات جيلهم وجيل الأمهات الذى لم يعرف الجواز عن حب فتقول “على الأقل أمهاتنا كانوا فاهمين عصرهم لكن احنا ضايعين لا فاهمين اذا كان الحب حلال والا حرام، أهالينا يقولوا حرام، وراديو الحكومة طول النهار يغنى للحب، والكتب معظمها يقول للبنت انتى حرة، لكن لو صدقت تبقى مصيبتها تقيلة وسمعتها زفت وهباب”.
 
 
إن كان اليقين هو ما تفتقده شخصية فاتن حمامة فى “الباب المفتوح”، فإن اليقين هو كل ما كان تملكه شخصية عمر الشريف فى “فى بيتنا رجل”، وهو أساس ما يحركه للقيام بالأعمال الفدائية، فحين يسأله رشدى أباظة متهكماً عن السبب الذى يجعله يضحى بحياته ومستقبله فيجيب بثقة إنه اليقين بمبدأ، وإن كان إستخدم لفظ “الإيمان” بدلاً من اليقين. أهمية اليقين تكمن فى أن الوصول إليه سيترتب عليه تحديد موقف الإنسان من القيم الآخرى، كالحب والحرية، وأحياناً ما يحدث هو العكس لأن العلاقة بين الثلاثة مفاهيم معقدة ومتداخلة، ظهر ذلك حين أخبر عمر الشريف زبيدة ثروت بأنه لم يعرف شعور الخوف على نفسه إلا عندما وقع فى حبها، هذا نوع من تقييد الحرية وإهتزاز اليقين الذى سببه الحب، بينما تجد فاتن حمامة فى حبها من صالح سليم الملاذ نحو الحرية بالهروب من قيود المجتمع، وأيضاً نحو اليقين الذى وجدته فى مشهد النهاية بمحطة مصر ما أوصلها لذلك اليقين هو رؤية رجال المقاومة الشعبية المصابين جراء العدوان الثلاثى، اذاً فهو حب من نوع آخر، حب الوطن.
 
الجوانب الجمالية وفلسفة الصورة فى الفيلمين لا يمكن إهمالها، ففى “الباب المفتوح” من الصعب أن نغفل ذلك المشهد الذى تتعالى فيه موسيقى أندريا رايدر رداً على قُبلة حسن يوسف لفاتن حمامة قبل أن تندفع الأخيرة لتلامس بوجهها مرآة الغرفة تندراً على حميمية مفقودة، وظهر كأن انشغالها بالسياسة فى المشهد السابق لم يكن سوى تنفيس عن هذا الكبت العاطفى (هناك نظريات تقول بأن الثورات السياسية يصنعها شباب مكبوت جنسياً وعاطفياً).
 
وهناك أيضا ذلك المشهد الذى تخبرها فيه شويكار بتشابه فساتين أفراحهما، لنجد الشاشة تظلم حيث تقف شويكار تعبيراً بالصورة عن رفض حمامة لهذه الحقيقة التى تمثّل مصيراً بائساً لها. أما المشهد الأروع فهو حين تهرب حمامة من غرفة والدها ليعترض طريقها محمود مرسى مخبراً إيها بأنه لا يوجد مفر، وتصبح محاصرة بين أبيها من الخلف وعريسها الفظ من الأمام، تعبيراً بالصورة عن فساد ومحاصرة وقمع المنظومة الإجتماعية نفسها.
 
 
أما عن “فى بيتنا رجل”، فمن الواجب الحديث عن تلك اللقطة التى تعقب وداع عمر الشريف للأسرة، عبقرية هذه اللقطة تكمن فى أنها أظهرت فى كادر واحد جميع أفراد الأسرة فى أماكن متفرقة من المنزل، حيث يكون الأب والأم فى غرفة السفرة، والإبن يجلس على مقعد فى صالة المنزل، بينما الأختين فى غرفة نومهما يتعانقان حيث تواسى إحداهما الأخرى لوداع حبيبها، هنا تتجلى البراعة فيما يطلق عليه فى مدارس ومعاهد تعليم فن السينما بـ”التكوين السينمائى”، وفى رأيى أن بركات بهذه اللقطة العبقرية قد وضع لنفسه مكاناً بجوار روّاد هذا الأسلوب مثل اليابانى “ياسوجيرو أوزو” والأميركى “أورسن ويلز”.
 
وإذا كان الجانب السياسى فى “الباب المفتوح” و”فى بيتنا رجل” جاء معبّراً عن الدعائية الساذجة والمباشرة التى ظهرت فى أفلام تلك المرحلة إلا أن الأبعاد الأخرى احتوت على ما هو أكثر قيمة وجمالاً وطغياناً ما يجعلنا نتصالح مع وجود هذا الجانب السياسى الدعائى، وبرغم أيضاً أن العنصر العائلى كان حاضراً بقوة فى التجارب الأربعة بأدوار بارزة للأب والأم وباقى أركان ما يوصف بالمجتمع، إلا أن الروح الشبابية كانت تطغى على كل هذا، وهو ما يؤكد حماسة بركات وانحيازه للشباب فى رؤيته المميزة التى وضعتنا أمام لوحات سينمائية لا تتكرر كثيراً فى السينما المصرية. 
Exit mobile version