الفيلم الإيراني.. حدود الروائي والتسجيلي في رصد واقع عسير

على هامش مهرجان القاهرة السينمائي ضمن “برنامج أسبوع النقاد”
“الفيلم الإيراني”.. حدود الروائي والتسجيلي في رصد واقع عسير
“سينماتوغراف” ـ أحمد شوقي
 
في برنامج أسبوع النقاد الدولي المقام على هامش مهرجان القاهرة شاهدنا الفيلم المغربي “الفيلم الإيراني” للمخرج ياسين الإدريسي، فيلم ذو أسم غريب وبناء لافت للنظر.
 
يعرف جميع محبي السينما حول العالم أن السينمائيين الإيرانيين يعملون في أسوأ ظروف ممكنة، في ظل سقف حريات منخفض للغاية، ومحظورات متعددة سواء على صعيد الموضوعات التي لا يمكن الخوض فيها، أو على صعيد الصور التي لا يُسمح بعرضها في الأفلام، وأبرزها بالطبع عدم السماح قانونا بظهور أي ممثلة بشعر مكشوف على شاشة السينما.
 
وبالرغم من هذه التعقيدات والشروط القاسية والمكبلة لحرية أي فنان وصانع أفلام أهم أدواته هي الخيال، فإن ذلك لم يمنع المخرجين الإيرانيين من ابتكار الحلول، والخروج من الحيز الضيق الذي تفرضه عليهم القواعد، إلى أفق أكثر رحابة يتم فيه طرح الموضوعات بطرق أكثر ذكاء، تمر من تحت يد الرقابة الحكومية والمجتمعية بعدم خرقها للقانون نظريا، لكنها تخترق المحظور وتعبر بصدق عن مشكلات المجتمع الإيراني السياسية والاجتماعية والإقتصادية بطرق غير مألوفة.
 
عباس كيارستامي، محسن مخملباف، جعفر باناهي، أصغر فرهادي، سميرة مخملباف، مجيد مجيدي، وغيرهم من أسماء مبدعين أثبتوا أنفسهم كصناع سينما أولا، وكأصحاب حيلة وحلول غير مألوفة ثانيا، وساهموا تدريجيا في بناء سمعة عالمية طيبة تتمتع بها السينما الإيرانية، التي يقع الكثير من محبي السينما في كل مكان بالعالم في حبها، تماما مثل المخرج المغربي الشاب ياسين الإدريسي، مخرج “الفيلم الإيراني” الذي جعل إيمانه بنموذج السينما الإيرانية وسيلة للخروج من إحباط شخصي كاد أن يحبطه ويوقفه عن العمل في بلده.
 
ياسين هو مخرج مغربي واعد، سافر ليتم دراسة السينما في هولندا، وعاد لوطنه لتصوير مشروع تخرجه، مليئا بالحماس والرغبة في صناعة فيلم على الطريقة الإيرانية التي يعشقها. حتى هذه اللحظة ياسين كان يتعامل مع الأفلام الإيرانية باعتبارها “طريقة”، ويشرح هذه الطريقة لصديقه خلال محاولات إقناعه بالمشاركة في كتابة السيناريو، فهي الأفلام التي تستخدم فيها أشياء عادية كرموز تشير في واقع الأمر إلى ما هو أكثر وأعمق، وهي صفة موجود بالفعل في السينما الإيرانية، لكن ياسين يكتشف ونكتشف معه أن “الفيلم الإيراني” هو وصف يحتوي على ما يزيد كثيرا عن مجرد الرمزية.
 
 
المغرب الإيرانية
 
إذا كانت صورة إيران هي ما شرحناه، فإن صورة المغرب سينمائيا هي على النقيض تماما، فهي الدولة ذات الإنتاج السينمائي الكبير والمتصاعد، والتي تفتح أبوابها لتصوير الأفلام العالمية على أراضيها، حتى صارت من أشهر مواقع التصوير في العالم. الصورة التي توازي بالطبع تفاؤل ياسين الإدريسي الذي كان يتصور أن في مناخ مرحب بالسينما بهذه الصورة، فمن السهل أن يقوم بالتصوير في إحدى القرى المغربية، ليقدم حكاية تاريخية عن مدينة سُرق منها أعلامها قبل موعد احتفال وطني كبير. الفكرة تبدو صعبة التنفيذ إنتاجيا، لكن المخرج يتحدث بثقة عن إمكانية تحقيقها.
 
 
هذه الثقة الممزوجة بالتفاؤل سريعا ما تصطدم بصخرة الواقع، ليكتشف ياسين أن الأمر ليس يسيرا كما كان يتخيل. بدءا من عدم إمكانية حصوله كفرد على تصريح بالتصوير في أي موقع، فالتصاريح تأخذها شركات الإنتاج المشهرة فقط، والشركات بدورها ترفض أن تدعم مشروعه ذي الحس التجريبي، الذي يتخوفون من أن يحمل وراءه رمزية قد تؤدي بهم لمشكلة هم في غنى عنها، لا سيما وأزمة الفيلم تدور حول أعلام اختفت، بكل ما يعنيه هذا من تفسيرات ساذجة عن ضياع الوطن المتمثل دائما في العلم. هذا على صعيد التعقيدات القانونية، وهي أسهل ما واجهه المخرج.
 
أما التحدي الحقيقي فهو التصوير في القرية المغربية نفسها، ولا نقصد هنا القرية المستشرقة التي يتم بناءها في مواقع التصوير من أجل الأفلام العالمية، ولكن نقصد القرى الحقيقية التي يرغب ياسين في نقل حسها الواقعي للشاشة، ليكتشف أن هذا الحس الواقعي يتضمن أيضا قدر هائل من الفقر والجهل بقيمة السينما، والتشكك في القادم الغريب، والخوف من الوقوع في محظور يسبب غضب السادة، وغيرها من الكوارث التي تجعل سكان كل قرية أشبه بالنصابين، يوافقون على التصوير ثم يعودون ويتراجعون، يأتون لحضور عروض ينظمها لهم المخرج الشاب ثم يحجمون عن الحضور للتمثيل في فيلمه.
 
المعاناة التي يلقاها الإدريسي تجسد بوضوح الفارق الشاسع بين الصورة الذهنية المثالية عن وطنه، والواقع المثقل بما يجعل ممارسة السينما مشكلة كبيرا لكل من يرغب فيها، بما يجعل المغرب بصورة أو بأخرى معادلا لإيران من حيث تضييق الخناق على المخرج والحد من أدواته (يمكن تطبيق الكلام على كل دول منطقتنا السعيدة تقريبا)، وهو ما دفع المخرج لأن يحول مشروعه من الفيلم الروائي التاريخي، إلى عمل شبه تسجيلي عن التجربة العسيرة التي واجهها في وطنه خلال الإعداد لنفس المشروع.
 
 
حدود رحبة بين نوعين
 
من الصعوبة بمكان أن تمسك بدقة بالحدود الفاصلة بين ما هو تسجيلي وما هو روائي في شريط “الفيلم الإيراني”، فالحكاية تنطلق من أصل واقعي، ويفترض أن الحكاية بشكل عام واقعية تعرض لها المخرج خلال محاولاته لصنع فيلمه، ولكن هناك بعض المشاهد التي يمكن بوضوح التأكد من كونها مصنوعة خصيصا للفيلم، سواء كانت مجرد إعادة تجسيد لما حدث بالفعل في مرحلة سابقة من قرار تحويل مسار الفيلم، أو كانت مواقف تمت صياغتها بالكامل من أجل استكمال هذا المسار الجديد.
 
بعد تفكير بسيط يمكنك التوصل لأن الإمساك بهذه الحدود هو هدف غير ضروري من الأساس، وأن فيلم كهذا هو انعكاس لواقع سينمائي جديد تذوب فيه الحدود الواضحة بين النوعيات، ويصبح تبادل المقاعد بشكل حر ورحب هو أساس اللعبة، فالجميع يعلم يقينا أن المخرج مر بهذه التجربة، ويعرف ضمنا أنه قام ببناء بعض المشاهد لكي يدعم حكايته، لذلك فالحديث حول المصطلح ليس إلا بحثا عن “الطريقة” كما كان ياسين يتصور في بداية رحلته، قبل أن يدرك وندرك معه أن سر الخلطة هو التلاعب وإيجاد الحلول من أجل صنع الفيلم، كما فعل في فيلمه، وكما يفعل أي مبدع جعله القدر يولد ويعمل في مجتمعات تضيق الخناق على أي مبدع.
 
والحقيقة أن الفيلم الذي كان المخرج يرغب في صنعه لا يبدو واضح المعالم أو متماسك، بينما يمتلك فيلمه الجديد الذي اكتشفه روحا أسلوبية واضحة وطرحا فكريا مكتملا. الأسلوبية هي الواقعية البحتة، اللقطات الطبيعية الخشنة بلا تجميل، والتقشف في كل شيء بما يوازي المعاناة التي يلاقيها المخرج مع كل عناصر صناعة فيلمه. أما الطرح الفكري فيتعلق بقيمة المواجهة، الوقوف في وجه كل التحديات والمثبطات والإصرار على صناعة الفيلم، حتى لو تحول المخرج في سبيل ذلك إلى حاوي، فما يفعله مخرجو إيران لا يفرق كثيرا عن هذا.
 
الفارق الرئيسي بيننا وبينهم هو أن صناع السينما في إيران لم يتوقفوا أمام العوائق، ولم ينخرطوا في الشجار والسفسطة وادعاء المظلومية، ولم يقضوا حياتهم يتحدثون عن سقف الحرية المنخفض والظالم، ولكنهم اختاروا الحل الأمتع والأكثر فنيا: البقاء والنضال من وراء عدسة الكاميرا، حتى تمكنوا من صناعة صناعة وتاريخ وسمعة دولية ومحلية، وحتى أصبح مخرج مثل محسن مخملباف عندما يعلن عن مقابلته لوجوه جديدة كي يختار منها أبطال فيلم جديد له، يتزاحم الآلاف على مكان “الكاستينج” مثلما نشاهد في إحدى لقطات فيلم “سلام سينما”، التي يعرضها ياسين الإدريسي داخل فيلمه، كنوع من التكريم للسينما التي يحبها، والتحسر على حالته الشخصية وهو من لا يجد ولو شخص واحد يريد أن يمثل في فيلمه!
 
“الفيلم الإيراني” لياسين الإدريسي تجربة سينمائية معاصرة ناضجة، يمكن اعتبارها وثيقة هامة تضع يدها بطريقة فنية على أزمة عالم عربي لا يزال عاجز عن التطور الفني بمعناه الحقيقي، بمعنى الانفتاح على تجارب العالم، وفتح الأبواب أمام الأبداع دون حدود أو أسقف للحرية، أو عوائق توضع أمام أي صانع أفلام يرغب في التعبير عن نفسه بالكاميرا. وعرض الفيلم في أسبوع النقاد الدولي تعبير مناسب عن دعم هذه القضية الخطيرة والحساسة.
Exit mobile version