«القدس» قديماً في السينما الصهيونية والهوية المفقودة

ــ عـماد النـويرى

نقل صورة مشرفة عن فلسطين واليهود الذين يبنون الوطن القومي الجديد، كان واحدا من أهم المهام الملقاة على عاتق السينما التي لعبت دورا محوريا في سياسة الدعاية الصهيونية بجانبها الوثائقي، ثم الروائي، منذ ظهورها وحتى قيام دولة إسرائيل في العام 1948.

مع بداية العام 1896، أرسل “الأخوان لوميير” طاقماً متدرباً من المصورين إلى مدن مختلفة من العالم بهدف عرض أفلام، أو تصوير مواد جديدة، ومن ضمنهم ألكسندر بروميو (1868-1926)، المنحدر من عائلة ليونية ذات أصولٍ إيطالية، ارتحل بروميو إلى مصر، ثم إلي فلسطين، حيث قام بتصوير عشره أفلام في هيئه مشاهد قصيرة في يافا والقدس. هذه الأفلام العشرة النادرة والثمينة التي تتراوح مدّة كل منها ما بين 45 و55 ثانية، توثق القدس سينمائياً في تلك الفترة، وتضمن هذا التوثيق مشاهد وصور للطريق من يافا إلى القدس، محطه القطار، مشاهد لبعض المناظر الطبيعيه، مشاهد لتلال قاحلة وصحراوية. باب الخليل، من الجهة الشرقية والجهة الغربية، حركة المشاة في بعض الشوارع وكنيسة القيامة، دخول وخروج المارة والحجاج من وإلى كنيسة القيامة، طريق الآلام، دخول وخروج الناس من وإلى كنيسة القيامة عبر باب كنيسة القيامة الصغير. حركة المارة أمام الأكشاك فى احد شوارع القدس. مشهد لقافله جمال تسير، مغادرة القدس عبر محطه القطار، ومشهد للحشد على رصيف حطه القطار.

الأخوان لوميير

وقد تعددت وتنوعت التجارب السينمائية على أرض فلسطين بعد ذلك حيث قام أف أورميستون – سميث بتصوير عدة أفلام في الأراضي المقدسة بداية من العام 1905، في حين أخرج المصور ليو ليفيفر في العام 1908 فيلم (القدس) لصالح شركة باتيه الفرنسية. وفى العام 1910 قامت مجموعة إكلير الفرنسية بتصوير فيلمين في فلسطين، ويعتبر أحدهما هو أول فيلم روائي يتم تصويره في الأراضي المقدسة يحمل اسم (عودة التمساح للحياة) من إخراج سيدنى أولسكوت.

ويعد أولسكوت أول مخرج أمريكي تحتوى أفلامه على مشاهد تصوير خارجي، حيث أحتوى فيلمه (بن هور) على مشاهد صورت في القدس. وصور أولسكوت في العام 1912 فيلما عن حياة السيد المسيح على الأراضي الفلسطينية، وقد أكتسب الفيلم شهرة كبيرة وظل يعرض في الولايات المتحدة الأمريكية حتى العام 1940، بالرغم من أنه فيلم صامت، كما أستمر عرضه في الكنائس على المصليين حتى العام 1960. وقامت مجموعة إديسون في الشرق الأوسط بتصوير فيلمين في فلسطين خلال العام 1914 هما (القدس والأراضي المقدسة وعكا) و(الميناء البحرى والقدس وزراعة البرتقال) وهما من الأفلام التسجيلية السياحية التي تروج لصورة فلسطين كموقع تاريخي، واقتصادي صالح للتوطن، وأقامه وطن جديد يليق بيهود العالم.

الفيلم الصامت بن هور

وحازت تلك الأفلام على إعجاب الجمهور اليهودي في كافة أنحاء العالم خاصة وانها تحمل العديد من الصور والمشاهد عن القدس ومعالمها التاريخية، وكانت الصور والمشاهد مطلوبة لمداعبة المخيلة الصهيونية التي تؤسس في الخفاء مشروعها لتحويل هذه المدينة الى عاصمة أبدية للدولة المنتظرة.

رساله توصيه

وكان مورى روزنبرج – الانجليزي الأصل – قد اشترى كاميرا باتيه فى العام 1911، وذهب إلى فلسطين حاملا رسالة توصية من ديفيد ويلفسون رئيس المؤتمر الصهيوني. وقام بتصوير فيلم (فلسطين، عودة اليهودي من المنفي) الذي خصص جزء منه عن مدرسة الفنون بالقدس، مع بعض المشاهد التي تظهر المصور والسينمائي الصهيوني ياكوف بن دوف وهو يقوم بالتقاط بعض الصور الفوتوغرافية. وحقق الفيلم نجاحا كبيرا بعد توزيعه تجاريا فى كافة أنحاء العالم، وأهدى روزنبرج نسخة من الفيلم للمكتبة اليهودية القومية في إسرائيل، والموجودة في الجامعة اليهودية في القدس. واشرف روزنبرج بنفسه على تجديد نسخة الفيلم التي حملت اسم (أول فيلم في فلسطين) وأعيدت التجربة في العام 1913 بعد فيلم مورى روزنبرج حين قدم نوح سكولوفيسكى طلبا للمؤتمر الصهيوني بعمل فيلم ضخم في فلسطين. قدمت الطلب مؤسسة مزراتش الروسية ليتم الموافقة عليه، وتم انجاز فيلم (حياة اليهود في فلسطين) وقد صورت اغلب مشاهده فى القدس، وهو من الأفلام الشهيرة في تاريخ السينما الصهيونية، وقد تم فقده، ولكن عثر عليه في فرنسا وتم تجديده وإهداء نسخة  منه للسينماتيك الإسرائيلي في العام 1998.

لقطه من فيلم حياة اليهود في فلسطين

بدأ تصوير الفيلم في مايو 1913، وتم عرضه في كل أوروبا في العام 1914. وتحول أسم المخرج على العنوانين من سوكولوفسكى Sokolowsky إلى المخرج الأمريكى سوكولوفسك Socolofsk، حتى يقدم الجمهور على مشاهدة الفيلم، وهو نفس الوضع الذى كان عليه الممثلين الأمريكيين من أصل يهودى عند لجوئهم لاستعارة أسماء أوروبية حتى يخفوا أصولهم اليهودية.

وكانت كل الأفلام المنتجة عن اليهود فى فلسطين حتى تلك اللحظة من إنتاج أفراد غير مقيمين فى فلسطين.

أول منتج

ويعتبر اكيفيه أريه ويز هو أول منتج سينمائي يهودي مقيم فى فلسطين. وقد وصل أريه لأرض فلسطين فى العام 1906 ليؤسس فى العام 1914 شركة (أورا هداشا) والتى تعنى (النور الجديد) من أجل عمل أفلام عن اليهود فى فلسطين باللغة العبرية. وينسب إلى ويز مبادرة صنع أول أفلام بالعبرية عن يهود فلسطين وفى الفيلم بعض اللقطات عن القدس القديمة.

ويعتبر جوزيف جال أزير من الشخصيات المهمة فى تاريخ السينما التى صورت القدس قبل قيام دولة إسرائيل، وقد ولد جوزيف جال أزير في فيينا فى العام 1890، وذهب لفلسطين كعضو من أعضاء المنظمة الصهيونية العالمية، وقرر البقاء ليصبح أستاذا فى الآداب بالجامعة العبرية، وكان أزير يطمح لإقامة صناعة سينما كبرى على أرض فلسطين لما تتمتع به من مناخ مشمس، وأماكن تاريخية حقيقية يسعى الكثيرون لرؤيتها على الطبيعة، وبالذات كانت تلك الفترة في تاريخ السينما هى فترة الأفلام الدينية والتاريخية.

سعى أزير للترويج لفكرته لدى شركات السينما الأمريكية من أجل الحصول على تمويل، ونجح في العام فى جذب انتباه شركة (جولدوين بيكتشر كوربورايشن) والتى أرسلت فريق عمل لفلسطين من أجل تصوير لقطات اختباريه لتصوير فيلم دينى كبير مستمدة أحداثه من الإنجيل، وكانت توجهات ازير الرئيسية تسعى لعدم حصر النشاط السينمائى الصهيوني في السينما الدعائية فقط، ويذكر أن الصندوق القومي لليهود لعب دورا كبيرا في دعم النشاط السينمائي الصهيوني على أرض فلسطين، وقد مول الصندوق إنتاج واحد من أهم الأعمال السينمائية المعروفة في تلك الفترة وهو فيلم (الربيع في فلسطين) وقد حفل بالكثير من المناظر التي صورت فى القدس وشارك في صنعه جال أزير.

وبدأ الجيل الثاني من السينمائيين اليهود المهاجرين لفلسطين العمل بالتعاون مع الجيل الأول، ومن أهم رموز هذا الجيل يوروشاليم سيجال الذى تركزت إسهاماته في مجال الإنتاج والتوزيع حيث أسس شركة سينمائية لإنتاج الأفلام الوثائقية في الفترة من 1927 حتى 1934. وقد عرضت الأفلام في صالات العرض في فلسطين، وتم بيعها بعد ذلك للصندوق القومي لليهود وصورت أغلب تلك الأفلام في القدس..

ويعتبر ناتان أكسيلرود من شخصيات الجيل الثاني أيضا وقد بدأ نشاطه السينمائي في فلسطين من خلال شركة يوروشاليم سيجال. وعمل على إنتاج العديد من الأفلام الدعائية للأفراد والشركات ، وكذلك الأفلام الدعائية لحركة توطين اليهود في القدس وفى عموم فلسطين، وتعد أفلام ناتان أكسيلرود شاهدا على تلك الفترة التاريخية التى تمتد من 1920 حتى 1950.

أما باروخ أجاداتى فقد تخصص فى الأفلام التسجيلية التى تصور الفنون الشعبية فى فلسطين بما فيها الفنون الفلسطينية، وبالذات الرقص الشرقي. سافر باروخ للعديد من الدول الأوروبية لعرض أفلامه والتى كانت تعتبر افلاما طليعية بالنسبة لجمهور اليهود فى فلسطين حيث ينسب إليه أول فيلم تحريك يهودى على أرض فلسطين.

فيلم أوديد التائه

وجاءت محاولات صنع فيلم صهيوني روائي صامت على يد حاييم هالاشمى تحت عنوان (أوديد التائه)، و يعتبر الكثير من النقاد أن الفيلم هو أول فيلم يهودى روائي طويل صور على أرض فلسطين. وفى الفيلم . سعى هالاشمى إلى تقديم علاقات التفاعل بين اليهودي (المهاجر – الغريب – الضال) وعناصر الطبيعة والسكان العرب فى القدس وفى بقية المدن الفلسطينية. وقد دشن خروج هذا الفيلم عصرا جديدا للسينما الصهيونية في فلسطين..

ومن الأفلام الدرامية الأولى ليهود فلسطين أيضا فيلم (استيقاظ فلسطي) الذي يحكى عن قدوم سائح يهودي أمريكي إلى فلسطين يفاجأ بالتنوع العرقي لليهود المهاجرين لفلسطين (من اليمن – أوكرانيا – روسيا – العراق… الخ) ولكنه يقرر مع ذلك البقاء في فلسطين والتبرع بمبلغ 100 آلف دولار للصندوق القومي لليهود في فلسطين. ينال الفيلم الكثير من النقد لوجهة النظر السياحية التي يعكسها دون أن يتعمق في أحوال يهود فلسطين.

واذا كان قدوم الصوت للسينما المنتجة في فلسطين لم يبدأ إلا في العام 1935 فإن الأفلام الصامتة ظلت تعرض في الصالات حتى إعلان دولة إسرائيل في العام 1948، ومنذ ذلك الوقت بدأ ظهور أفلام تمثل السينما الإسرائيلية لأول مرة.

أهداف مرحليه

كان هدف الحركة الصهيونية قبل إنشاء دولة إسرائيل إثبات أن لليهود حقا تاريخيا في عموم فلسطين خاصة القدس باعتبارها العاصمة الابديه، ودعوة يهود العالم للهجرة إليها، حتى يستقروا في أرضها – أرض العسل واللبن – ويتم إنقاذهم من الشتات الذي يلاقونه في معظم أنحاء العالم.

وقد استمر هذا الهدف أيضا بعد إنشاء إسرائيل. ولذا بدأت الحركة الصهيونية في التخطيط العملي للدور الذي يمكن أن تقوم به السينما سواء التسجيلية أو الدعائية، لخدمة أغراض الحركة الصهيونية، وذلك عقب مؤتمر (بـال) الصهيوني الذي عقد في سويسرا العام 1897، وقد كان التخطيط عند إنتاج الأفلام يتم طبقا لمتطلبات المراحل الزمنية التي تمر بها الحركة الصهيونية، وذلك لخدمة أهداف كل مرحلة من مراحل الصراع العربي الصهيوني، وتنقسم السينما الصهيونية قبل إنشاء إسرائيل إلى قسمين:

الأول: الأفلام التي تم إنتاجها على أرض فلسطين عقب مؤتمر (بـال) الصهيوني وحتى العام 1917 حين إعلان “وعد بلفور”.

الثاني: الأفلام التي تم إنتاجها على أرض فلسطين منذ إعلان “وعد بلفور” حتى العام 1948 حيث تم إعلان إنشاء دولة إسرائيل رسميا.

في القسم الأول كانت الأفلام تتضمن تعبيرا صريحا وصادقا عن محاولات الفكر الصهيوني في غزو الفكر العالمي، وصيغ الفكر الصهيوني بالطابع الانسانى، مع شرح الجذور والصلات التاريخية والدينية التي تربط اليهود بفلسطين، وخصوصا مدينه القدس،  باستخدام التوراة كمصدر رئيسي في محاولاتهم لتزييف الدين والحق باعتبار (التوراة اليهودية) كتب (سيدنا موسى) التي تحتوى على شريعته وتعاليمه، وقد كان أبرز هذه الأفلام، الفيلم الروائي الطويل “حياة اليهود في أرض الميعاد” إخراج يعقوب بن دوف العام 1912. وقد صور هذا الفيلم مجموعة من الآراء الصهيونية عن صلة اليهود بفلسطين، من خلال قصته التي تدور عن حياة التجمع العبري في أرض الميعاد، والاحتفال باستقبال المهاجرين.

فيلم حياة اليهود في أرض الميعاد

طابع دعائى

في القسم الثاني اتخذت الأفلام الطابع الدعائي لفكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ومحاولة تثبيت الوعي القومي بالحق الديني والتاريخي من خلال المنظور الديني، واستخدام التوراة كمصدر رئيسي للعقيدة اليهودية، لتخدم أغراضا سياسية أنية ومستقبلية في آن واحد. مع ترديد قصص “الهولوكست” بالتأكيد على الآلام اليهودية وما لاقوه من تعذيب واضطهاد وخصوصا في سنوات الحرب العالمية الثانية على أيدي جيش الغازي، بهدف إثارة حالات الشفقة والتعاطف الانسانى لدى الشعوب، حول القضايا اليهودية من جهة، وإبراز عقدة الاضطهاد إذا خرجوا عن النهج الصهيوني من جهة ثانية، والترويج فنيا وإعلاميا وثقافيا لحق اليهود في أرض فلسطين من جهة ثالثة فبرزت الأفلام تؤكد تلك المفاهيم الصهيونية فأخرج يعقوب بن دوف عدة أفلام لتكرس تلك المزاعم منها:

(يهودا المحررة) العام 1918، (أرض إسرائيل المحررة) العام 1919، (عودة صهيون) العام 1921، (الأبناء يبنون) العام 1924،(شباب في أرض إسرائيل)  العام 1926، (عشر سنوات من تاريخ إحياء شعب إسرائيل في أرضه) العام 1927، (الربيع في أرض إسرائيل) 1928.

القدس 1945

ثم توالت كذلك الأفلام الوثائقية القصيرة التي كانت عبارة عن دعاية صهيونية مباشرة، تصف الاستيطان الزراعي ومن هذه الأفلام، (صابرا) العام 1933 إخراج ألكسندر فورد، (هذه هي البلاد) العام 1935 إخراج باروخ أجداتى، (إلى حياة جديدة) العام 1935، إخراج يهودا ليمان، (نبوءة وواقع) العام 1937 إخراج ناثان أكسلورود، (فوق الخرائب) العام 1938 إخراج ناثان أكسلورود، (صوت من قريب) العام 1939، إخراج ناثان أكسلورود، (بيت في الصحراء) العام 1947 إخراج بن عويزرمان، (الأرض) العام 1947 إخراج هيرمل لارسكى، ونلاحظ أن الصورة التي خلقتها وروجت لها تلك الأفلام للعربي الفلسطيني حتى العام 1948، تتناقض تماما مع الصورة التي روجت لها نفس الوسائل لليهودي الصهيوني، وفضلا عن ذلك كان أحد الأهداف الأساسية للصهيونية، أن تجعل العالم يرى الفلسطيني صاحب الأرض، بالطريقة التي تريدها، وعندما نرى الفلسطينيين في فيلم (الأرض) على سبيل المثال نراهم قوما من الكسالى، البلهاء، الطاعنين في السن الذين يستخدمون الوسائل البدائية في الزراعة،  ويتم توجيه اللوم إليهم، وانتقادهم بشدة بسبب إهمالهم لـ (الأرض المقدسة) لقرون عدة، ولكونهم يعيشون حياة متخلفة، فقد جاء اليهودي المتحضر، المتواكب مع ركب الحضارة، وأحضر معه علوم وثقافات الحضارات الأوربية والأمريكية المتقدمة، فنرى في مقابل الشخصية الفلسطينية الضعيفة، الصهاينة شبانا ممتلئين حيوية ونشاط يسيرون معا نحو الحقول حيث يعملون في الزراعة، وهذا التناقض المقصود بين اليهودي الصهيوني والعربي تعمق في الضمير الغربي، وامتد ليشمل صورة الفلسطينيين وقضيتهم العادلة في أجهزة الإعلام الغربي فيما بعد، حيث تفرض المؤسسات الصهيونية حصارا شديدا على طاقة وسائل الإعلام الغربي لمنع طرح أي وجهه نظر تناقش الحق الفلسطيني خلال مراحل الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي الممتد لأكثر من 70 عاما.

Exit mobile version