«سينماتوغراف» ـ أمجد جمال
يبتعد المخرج الألمانى فاتح أكين هذه المرة عن دراما المواضيع الإجتماعية المعاصرة ويقدم فيلماً تدور أحداثه فى حقبة زمنية ماضية، لا نستطيع حتى أن نصفه بالفيلم التاريخى رغم أنه تم التسويق له بكونه فيلماً عن مذابح الأرمن، إلا أن المتفرج سيدرك بعد دقائق من بداية الأحداث أنه أمام قصة ميلودرامية تقليدية عن أب يبحث عن إبنتيه، وما كان لمذابح الأرمن من دور سوى دفع رحلة البطل، “نازاريت مانوجيان” وهو الحداد الأرمينى الذى تختطفه السلطات العثمانية للعمل بالسخرة وإجباره على تغيير ديانته إلى الإسلام وإلا قُتل، وعندما ينجح بطريقة ما فى الهرب منهم يكتشف أن عائلته راحت ضحية عمليات التطهير العرقى والدينى التى حدثت فى العام 1914 ليبدأ رحلته المأساوية فى البحث عن مأوى ومعنى فضلاً إيجاد عن إبنتيه اللتين نجحتا بطريقة ما فى الهرب من المصير الأسود.
أول المشاكل التى يعانيها الفيلم هو البطء الشديد فى الإيقاع، خاصة فى مرحلة التأسيس الأوّلى التى أخذت من الوقت ما يزيد عن المدة التى قد يمكن إحتمالها، وتبعها رحلة مملة يتنقّل فيها البطل من دولة إلى أخرى، ومن قارة إلى أخرى، وما جعل تلك الرحلة بهذا الايقاع البطيء أولاً أن الشخصية الرئيسية لم تمتلك فى عناصر رسمها العنصر الذى يجبر المتفرج على التعلق بها ومن ثم الإهتمام بمتابعة مصيرها، ثانياً المبالغة فى الصدف التى حاولت عمل نقاط التلاحم بين التتابعات الدرامية التى يدور كل منها فى بلدة ما، هناك دائما صدفة تجعل البطل يغيّر من وجهته ويعدّل من بوصلته فى رحلته الكوكبية المهيبة التى لا تتناسب مع ما تفرضه كثرة الصدف من معنى بأن الدنيا ضيقة لهذه الدرجة وأن خيوط الوصل متاحة بهذه الكثافة!
ولم تكن المبالغة فى الصدف هى النوع الوحيد من المبالغات بالفيلم، فقد كان هنالك أيضاً مبالغة فى تكريس المأساوية لإبتزاز العواطف، ومبالغة فى أداء الممثلين، ومبالغة فى جعل البطل يظل دائما بطلاً بالمفهوم الكارتونى، أى أنه يخرج دائماً من المواقف الحالكة والمميتة حياً فى كل المرات وهذه المرات كانت كثيرة للغاية.
والسؤال الذى سيطرح نفسه الآن هو ما الذى يجعل المتفرج يصبر على كل ذلك؟، والإجابة لن تخرج عن بعض اللحظات التى تجلّت فيها روح “أكين” وطغت على عقله، لحظات يظهر فيها الفنان البحت بإنفعالات عفوية أو مشاعر دافئة أو رؤية جمالية، وذلك يمكن تلخيصه فى ثلاثة مشاهد جعلت من هذا الفيلم محتملاً، أول هذه المشاهد هى لحظة الغضب العارمة التى انتابت البطل تجاه الذات الإلهية فى وسط الصحراء وهو يقوم بمسح الصليب من فوق يده بإنفعال شديد العفوية والصدق.
وثانى هذه المشاهد هو مشهد إجتماع الشخصيات فى البلدة الحلبية لمتابعة فيلم “الطفل” لتشارلى تشابلن، ما بعثه تتابع اللقطات بين وجه بطل “القطع” المتصاعد فى بكائه ووجه تشابلن بطل “الطفل” بالمشهد الذى يفقد فيه أسرته من مشاعر دافئة وما احتوى عليه من ذكاء المقارنة والتشابه بين الموقفين فضلاً عن تناغم سينما تشابلن الصامتة مع حالة البطل الأبكم، كل ذلك جعل من تلك اللحظة تستحق الوصف بأنها عبقرية.
أما ثالث هذه المشاهد فقد كان مشهد عودة البطل إلى أطلال بلدته السابقة ليرى الفاجعة الإنسانية بعينه ويشارك بها، البُعد الجمالى فى تصوير هذا المشهد بما فيه من أجساد نصف عارية تتألم من أوجاعها البدنية والنفسية الرهيبة وما غلفها من خلفية صحراوية وسماء غائمة جعلت المشهد أقرب إلى لوحة تشكيلية عظيمة قادمة من عصر النهضة، قبل أن يختتم المشهد بلوحة أخرى صادمة ببشاعتها يقوم فيها البطل بقتل رحيم لأخت زوجته.
ولعبت موسيقى “أليكساندر هاكى” دوراً خلاباً فى التخديم على تلك اللحظات الرائعة القليلة من زمن الفيلم ولحظات أخرى غيرها، فبلمسات جيتاره الكهربائى شديدة الحسية والملحمية إستطاع تعويض كثير مما ينقصه الفيلم. القطع هو تحفة فنية أفسدتها المبالغات وأرهقها خلل المقادير وأنقذها حدس مخرج موهوب من المصير الفاشل.