«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام
إن أمعنت التأمل فى قطعة الأحجية البلاستيكية المتداولة بشكل ترفيهى بين المراهقين والكبار، ستفاجئك نسبها المحسوبة فى بناء المكعبات، بما يُعقد مغزى لغزها وفى الوقت ذاته يمنحها منطقا مستساغا للحل. الأمر ذاته ينطبق على الرسائل المُشفرة، فبوهيميتها تقم على منهج مدروس، ورمزيتها لها أساس يجعل منها لغة موازية، لها مفرداتها وأدواتها، مفاتيح بلوغ نورها تكمن فى مواضع إظلامها. فالرمز عموما ليس فعلا عشوائيا، يمكن من خلاله تبرير الفوضى وقلة الحيلة، واستغلاله كوازع لإسقاط إلزامية الإجابة عن أسئلة مهمة بإسم قوة الأسطورة الرمزية، التى يتناسى البعض أن قدرتها على مجافاة الواقع تتطلب منطقا أشد وأكثر حُجة فى الخلق. فالأسطورة ماهى إلا وجهة أخرى لحقيقة معتادة.
فيلم «القط» استند بذراعين واهيين على منطق الترميز، اقتصره فى ملابسات شكلية مباشرة أقرب إلى التلفيق. وعلى كاهلها قدم خطة مريضة ليُدير بها مجموعة مشاهد مبعثرة تزعق بوجود الرمز، تشير إليه بكفين خاويين ليتحدث نيابة عن سيناريو ميت، قصة ممطوطة، وشبهة الشروع فى صناعة فيلم. ما إن يُقرر الصانع الإنطلاق من مبدأ مماثل فى الطرح، نراه مطمئنا إزاء كل مواطن الضعف فى عمله، لإنها ستندرج تلقائيا تحت خانة التحامى فى قوة الرمز. فنجد مساحات من الغرابة المصطنعة، الإدعاء المعهود بالعُمق، والسقطات التى لا تحتمل تبريرا من فرط طفوليتها.
سحر وشعوذة الرمز
القط «عمرو واكد» شاب ضاعت ابنته، ففسدت حياته، وفيما يبدو وما إجتهد السيناريو فى إطلاعنا عليه، أنه نذر نفسه لمحاربة عصابة معنية بتجارة الأعضاء، تخطف أطفال الشوارع وتسطو على أجسادهم، ومن ثم تواريها فى أقرب خرابة. أرسى السيناريو هذا الصراع بين أفراد العصابة وبين القط وكأنه صراع ممتد منذ أمد، فنرى أحد المتورطين يتوسله «إرحمنى يا قط» بينما هو مقبل على قتله. تماما كما نلمس الأريحية التى يتحدث بها الرأس الكبير لإدارة هذا التنظيم «الحاج فتحى» معه، بصورة تنبأ عن تاريخ من الصراعات التى نشبت بينهما، فهو يعرف هويته تماما ويعتبره عدوه اللدود. ولكن فى الوقت ذاته يتناقض ما نستشفه من الحوار مع هذا المفهوم، فنجد الحاج فتحى وهو يسأل القط «وإنت ملقتش غير حد من رجالتى وتخربش فيه»، ومن ثم نرى غجري «حليف القط» وهو يلح عليه فى الإستفهام طوال الفيلم «وإحنا ليه نتورط مع ناس زى الحاج فتحي». ومن ثم نعود لنستمع إلى مبرر القط فى نهاية الفيلم حول عدم إقباله على قتل الحاج فتحى من البداية، فيقول «أنا قتلت الأولانى عشان عارف إنى هاقدر عليه، لكن ماقتلتش ده عشان ماكنتش عارف مين اللى واره». كل ما سبق من مقتطفات الحوار، تضع يدنا على حقيقه هامة، وهى إن الحادثة التى قام بها القط فى عصابة الحاج فتحى، كانت الأولى فهو لم يطلق يده فيهم من قبل، ومع ذلك هم على علم بهويته ومن ثم يدخرون كل هذا الخوف من بطشته ويهرعون للتوارى منه، ويتفوه أحدهم بإسمه وكأنه إله العدالة وهو مقبل على الموت تحت يده. وإن كانت صور الجريمة التى بيّن السيناريو أنها نُشرت فى الجريدة، هى سبب تعرف الحاج فتحى عليه، فهى عذر أقبح من ذنب قد يلجأ به أحدهم لتبرير هذا التخبط فى رسم الخط الدرامى، لإنه وبخلاف كينونته غير المقبولة من الأساس، لم يتعد مجرد صورة فوقية لا تتجلى فيها ملامح القط بما يبرر التهليل المطمئن الذى يقابله الحاج فتحى به فى مكتبه بأول المشاهد التى جمعت بينهما، وكأنه يعرفه عن ظهر قلب.
ولكن عذرا، لا يحق لنا التفكير فى هذا التضارب، يكفينا مهابة الرمز!
وعندما نعود للتفكير فى تبرير القط لقتله أحد أفراد الطاقم العصابى للحاج فتحى، دون إستهداف فتحى نفسه خوفا من إنتقام القوة التى تُحركه وتثبر خطاه الإجرامية. لا نتعثر بمنطق يقنعنا بأن التعرض لرجال الحاج فتحى بغرض إفساد تجارته الكُلية، إلى جانب تهديده بالقتل فى عقر داره لا تعتبر نوعا من التهجم الموازى للإحتكاك بهذه السلطة الغامضة، وتحرشا بمصالحها، بالرغم من أنه فى الأساس يهرب من سطوتها.
من ناحية أخرى، حينما نتأمل جملة القط «ودلوقتى مش قادر أقتله – قاصدا الحاج فتحى- عشان مستحرم، الدم كتر على إيدينا». نستخلص أن القط وغجري، ثابرا ليعدا خطة إختطاف الحاج فتحى لإرضاء الزعيم المُجهّل «فاروق الفيشاوى» الذى يريد مقتله على أيديهم، ولكن القط أبى ذلك لأنه بات يستحرم الدم، وعوضا عن دم الحاج فتحى لم يستنكر دم سائق السيارة التى كانت تتنقل به، وهو من يعرف أنه سيعترض طريقها، وبأنه سيضطر بوسيلة أو بأخرى أن ينتزع فتحى من بين رجال سيتمادون فى الدفاع عنه، ولابد أن يكون مسلحا ومستعدا للقتل فى سبيل الوقوف أمامهم. إذا فهو أعد خطة جهنمية لتُجنِبه الدم، يعلم أى رضيع أن إستهداف الحاج فتحى وقتله دون خطفه ستكلفه دما أقل منها.
عذرا مرة ثانية، فكل شىء لابد وأن يسير على هذا المنطق الواهى، حتى لا تختل وعظية الرمز!
وإن كانت كل هذه التناقضات مقصودة، تحت لواء الغرض الشائع الذى يسمح بتعرية شخصية القط، وكشف تعقيدات نفسها التى تنتهى بنا إلى صراع معهود بين نزعة الخير والشر، فتوضحها وهى تلجأ للتعامى عن ميلها الفطرى صوب الشر، وتلقى الضوء عليها وهى تأول كل خطواتها نحو إرتكاب الرذيل من الأفعال بإعتباره محاولات للإفلات من الذنب. فإن كل هذه التحويرات الدورانية مازالت أكثر إلتفافا من الإقرار بوجودية الفيلم نفسه. فهى تشبه معادلة رياضية ألف صاحبها كتاب كامل ليوضح من خلالها أن الموز من الفاكهة. أنت بصدد صناعة فيلم هنا، فيلم يتطلب حبكة، بناء جيد، وتراكم مجموعة من الأحاسيس التى من خلالها تتجسد الفكرة، مهما كانت بسيطة وبدائية، ودون التشبه بقالب سردى محدد أو مقولب. بينما يكفى أن تتحدث مادة الفيلم عن نفسها، بأى لغة وبطبقة الصوت التى ترغبها. ولا تستعيض فى مقابل كل ذلك، بالركض خلف تشعيب رمزيات الفكرة، ورفع أطراف أناملها عن أرض الواقع لتكون بمنأى عن الإتهام بعدم المنطقية.
فراغ
ولأن الرمز ولد قبل الفيلم. نرى المادة الفيلمية وعلى مدار مدة عرضها، وهى تمّط القليل من الدراما التى تملكها فى فراغ مقيت. مُخفِق لدرجة مخيفة ومفزعة. لا تملك شخصية لتتحدث من خلالها، ولا موقفا حقيقىا يمكن أن تحاكينا من خلفه. كلها وقائع مفترضة، شخصيات تمثالية، وحبكة ميتة منزوعة السيقان خاوية الروح. أشلاء مبتورة ومبعثرة هنا وهناك، مُحتم علينا أن نقبل بالفتات الذى يقدمه لنا السيناريو عن طبيعتها، كل شىء مفتقر إلى الحيوية. علاقة القط بوالده، بإمرأته المطلقة، وحتى بإبنه الذى سبق وأخبرته معلمة المدرسة أن سلوكه يسير فى إتجاه عنيف، بينما يظهر الولد أمامنا طوال الفيلم بوجه رائق هادىء، وعينيين مرتاحتين، وإبتسامة لا توشى بها شفتا صغير يلجأ إلى العنف ليوارى وجعه من ضياع أخته.
لقطات تستمر لدقائق طويلة من دون أدنى غرض، فمرة نجد إمرأة القط وهى تحمل الطفلين وتخرج من الحارة فى طريقها إلى الأسكندرية كما أمرها، فتظل الكاميرا مراقبة لخطواتهم بإستماتة لا داع لها، تماما كما نرى لقطات طويلة لغجري والقط وهما يطلان من نوافذ الغرفة التى استأجراها فى فندق ما لإستهداف الحاج فتحى، ولقطة أخرى تستمر بنفس الطول للقط وهو يطل من باب القطار الذى استقله إلى الأسكندرية بعدما إنتهى من مقابلة الزعيم المجهول الذى نصحه بالسفر عن طريق القطار. لقطات لا حصر لها من هذا النوع، أودت بموت الإيقاع، ووشت بأرضية السيناريو الهشة التى عجز عن ملء فراغها، مؤكدة على محو هوية وجود الفيلم. مجرد حشو مفضوح لم يوار سوءة هذا العمل الفنى المسخ.
هذا الزعيم الكرتونى «فاروق الفيشاوى»، الرمز الأبله، الذى يقطتع مسار السيناريو فجأة وهو يهيم على وجهه بين المعابد والمساجد والكنائس، وكأنه يقول بنبرة ستات البيوت «أنا رمز، أنا مش حقيقى يا جماعة، أنا بعبر عن قوة مجهولة، إوعوا تفتكروا إنى حقيقى». إضافة إلى جماعته المكونة من رجل وإمرأة، اللذين قد يقضيان يومهما بالكامل فى الإنشغال بنيولوك عشريناتى، ويتحدثان مثل كبيرهم بطبقة صوت فخيمة وتهَجُىء بطىء، وفى هذه اللحظات لابد وأن يؤمن المُشاهد بهيبة الرمز فيهم، ويضع يده على سر الفيلم. إلى جانب التفصيلة الهامة المتعلقة بلباسهما فى مشهد ما قبل النهاية، حيث تعمدا توحيد زيهما بالأبيض والأسود وخاصة فيما بين الرجلين، ليظهرا بالبدلة السوداء والقميص الأبيض من تحتها، ليذكروك بفيلم هوليود الجليل مقارنة بما قدمه بطوط من هراءات «men in black».
يقول جوزيف . م. يوجز فى كتاب فن الفرجة على الأفلام «الترميز الذى يبدو كيليشيه، يكن عائقا أكثر منه عونا».
آخر كلمتين:
ـ المتفرج كائن أوعى من أن يمضغ كل هذا التهاون فى التعب على بناء فيلم، مقابل توريطه فى مظاهر إستعراضية سخيفة لا معنى لها.
ـ عمرو واكد، يتحمل عبء التمثيل وحده فى الفيلم، هذا الإصرار من قبل المخرج ابراهيم البطوط على إستخدام ممثلين غير احترافيين فى معظم الأدوار، انتهى لوضع الفيلم فى مأزق مضاف. فما إن يظهر أحدهم ليفتح فمه لتجد نفسك متفوها «ما كل هذا الكذب». وبخصوص ذكر عمرو واكد، هو حقا فنان يمتلك من الموهبة ما يحمله على الخجل من استنزافها بهذا الشكل المقيت.
ـ أفيش الفيلم صورة ناطقة عن فراغه.
شاهد الفيديو الدعائي لفيلم «القط»: