كان ـ «سينماتوغراف» : عبد الستار ناجي
الفيلم المغربي «القفطان الأزرق» الذي عرض في قسم «نظرة ما»، ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الـ 75، واحد من أهم نتاجات السينما المغربية يذهب بعيداً في طروحاته واحتفاءه بالخياطين المهرة والحياة خارج تقاليد الحياة، وأيضاً الموت والدفن في بلد إسلامي مثل المغرب، عمل أكثر أهمية بقيمته وأسلوبه ومضامينه في السباحة عكس التيار وخارج كل ما هو مستعاد وتقليدي ومكرر .
«القفطان الأزرق» قراءة وتحليل لمسيرة القفطان والتالي صناعته وأساليبه وقيمته، احتفاء عالٍ عبر لغة سينمائية وكتابة رصينة عميقة وثرية بالصوره والأحاسيس، فى الفيلم الذى تعاونت فى كتابته المخرجة المغربية مريم توزانى مع زوجها المخرج والمنتج نبيل عيوش، تشتغل هذه المبدعة على ما أبعد من حدود الصورة والمسرود من الحدث إلى كم آخر من الحكايات التى تذهب إلى عمق التاريخ والمجتمع، وإن ظلت المحاور الأساسية محل الخياطة التقليدية والحمام والحي، وقبل كل هذا القفطان بكل بهاءه ومجده.
تدور الأحداث، حول حكاية حليم (صلاح بكري) المتزوج من مينا (لوبنا ازبال) وهما يديران محل للخياطة التقليدية الخاصة بالقفطان، حيث مدينة سلا القريبة من العاصمة المغربية وحيث لا تزال التقاليد صامدة أمام عالم متسارع متغير، يظل حليم يعيش عالمه السري عبر العلاقات المثلية في أحد الحمامات الشعبية، وفي الحين ذاته تظل زوجته وفيه له رغم علمها بأنه يعيش تلك اللحظات الشاردة التى تظل تحمل له الهدوء النفسي والجسدى، لقد ظلت مينا أمينه عليه تفتخر وتعتز به، حيث تقول له وهو يعترف أمامها بما يفعله بأنه (سيد الرجال)، ذات يوم يحضر إليهم شاب (يوسف) أيوب موسوي للعمل عندهم في حرفة الخياطة وتبدأ العلاقة بالتطور بينه وبين حليم، في متوازي مع الإنهيارات الصحية لزوجته التى إلتهم السرطان جسدها وباتت غير قادرة على العمل وتحمل الألم الموجع، أحداث تسير بهدوء وتكاد تتكرر، حيث محل الخياطة والحمام والحي وأيضاً عملية الخياطة والحياكة والاشتغال اليدوي لتشكيل القفطان الذى يتطلب كثير من الوقت، وهذا ما جعلتنا مريم توزاني نعيشه ونحسه ونتأمله ونستمتع به، حياة ذلك الثنائي كانت خارج الإطار التقليدي، حتى في لحظة الموت وتقاليد الدفن حيث يقرر حليم أن يدفن زوجته مينا وهي ترتدي القفطان بدلاً من الكفن حسب التقاليد الإسلامية، ولربما يثير هذا المشهد كثير من الجدل أكثر من موضوع المثلية الجنسية التى قدمتها الشخصية المحورية وتصوير الحمامات وكأنها ساحة لمثل تلك العلاقات.
سينما تحتفي بالإرث الكبير للقفطان وصناعه وظروفهم، عبر قراءه خارج التقليد في كل شي إعتباراً من بناء الشخصيات وتطورها إلى المناخ العام للفيلم الذي ظل محافظاً على إيقاعة ومساراته الثرية وشخوصة المكثفة والتى هي الأخري خارج السياق التقليدي، شخصيات اختارت ما تريد كما اختارت التعامل مع هذا السمو العالي بما يمثله القفطان من اللون إلى التصميم والشغل والإنجاز والعلاقة مع الجسد والمناسبة وهي في الغالب الفرح الأكبر، شخوص ودلالات وكذلك لغة سينمائية مقرونه بالإحترافية التى ترسخ بصمه هذة المبدعة المغربية، حتى وهي تحرك الساكن وتثير الجدل وتحفز الوعي بأننا أمام حرفة تذهب إلى الاحتضار والموت.
لذا تأتى أحدث الفيلم بصرخة مكتومة تتفجر في اتجاهات عدة تاره عبر الممارسات المثلية لخياط عاش طيلة حياته مهمشاً مع والده، وحينما جاءت زوجته لتفجر طاقاته الإبداعية وتحوله إلى معلم ومنحته الحرية حيث تقول له (لا تخاف من الحب)، وقد أخذ بتلك النصيحة حيث المشهد الأخير بعد الموت يظهر حليم مع يوسف في أحد المقاهي الشعبية، وهو يعلم جيداً ما سيقال عنه ولكنه اختار ما يريد لذا أدار ظهره للكلام من أجل أن يحافظ على الحب كما يحافظ على صنعته وحرفته ..
في الفيلم أداء متجانس متناغم عادي رقيق بين ثلاثي الفيلم صلاح بكري ولوبنا ازبال وأيوب موسوي، ولابد من التأمل كثيراً فى الأداء العميق للفنانه لبنا ازبال التى ذهبت بعيداً في تحليل الشخصية ومعايشة الانتقالات بكافة مراحلها وصولاً إلى النهاية عبر حالة سخية من التحليل والفهم لطبيعة الشخصية ومعطياتها وهو أداء لا يتحقق إلا بالإحترافية العالية.
الحديث عن «القفطان الأزرق» يدعونا إلى تحية المركز السينمائي الوطنى المغربي الذى يظل دائماً وراء إنجاز تلك الأعمال السينمائية، التى تليق بالسينما المغربية وترسخ مكانتها حتى وإن كانت بالنسبة للبعض مثيرة للجدل..