الوكالات ـ «سينماتوغراف»
في مقابلة أجرتها معه مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية تحدث المخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار عن فيلمه الجديد «جوليتا» وعن تفاصيل عديدة في مسيرته الفنية الحافلة، وكذلك عن ابطال جوليتا الممثلة الشابة ادريانا اوغارت التي لفتت انظار النقاد في «مهرجان كان» الأخير (الذي انتهى مؤخرا) وإيما سواريز وغيرهما.. ونقتطف من حديثه الطويل ما يلي:
في افلامك تعتمد دائماً الحوارات الطويلة خاصة بين بطلاتك في لغة نسائية غنية ومتفرعة وكأنك تتلذذ بهذه الحوارات النسائية، لكن هذا غير موجود في فيلمك الجديد «جوليتا».
ـ بطلاتي في جوليتا لسن ثرثارات كما في بقية افلامي. كنت قد قرأت مقالة وحديثاً مع اليس مونرو تقول فيه ان المرأة لها حاجات طبيعية في الاكثار من الكلام، وما ان تلتقي النسوة حتى يبدأن بالتحاور. هن بحاجة ماسة الى قول كل ما يشعرن به. أما الرجال فوضعهم مختلف، وهم يواجهون مباشرة وبالتصرف ما عليهم ان يواجهوه.
في «جوليتا»، وكان يجب ان يكون اسم الفيلم «صمت» وهو عنوان واحدة من القصص التي يسردها وكن اعتمدناه لفترة ثم قررنا تغييره، وذلك لأن الصمت جزء مهم منه وصفة من صفات العلاقة التي تسود بين جوليتا وزوجها او بينها وبين ابنتها آنيتا. فالشخصيات في «جوليتا» لا تشرح مشاعرها وهذه الأخيرة تبقى طوال الفيلم غامضة. فالبطلة تكتشف خيانة زوجها وتتصرف على أساس وجود هذه الخيانة لكنها لا تتصارح معه في الموضوع. كذلك عند موت الزوج لا مصارحات بينهما وبين ابنتهما. والصمت هو لغة اساسية في «جوليتا» على عكس افلامي الأخرى.
أمكنة جديدة
ما يدخل في اللغة ليس المواجهة التي تشرحها بين اسلوبك الباروك (كما تسميه) ولغة اليس مونرو الرقيقة للغاية. ولكن انها قد ارسلت بك الى امكنة جديدة لم تكن قد زرتها في افلامك سابقاً حيث كانت البطلة لديك مثلا حيوية وناشطة لمواجهة مشاكلها، انما هي هنا محبطة ونتابع انهيارها، وارى ان ذلك غاية في العنف.
ـ هذا صحيح. فغالباً ما وصفت في افلامي امهات يمتلكن قوة خارقة في المواجهة. لكن جوليتا مختلفة عن تلك الأمهات. ولقد كنت دائماً اعطي صورة الام جانباً مسلياً وطريفا اذ كنت استقي ذلك من شخصية امي وعدد من الأمهات اللواتي عرفتهم في طفولتي. ولكن حين صورت شخصية جوليتا لم يكن فيها اي شيء من هذا القبيل، وعندما جعلتها تنعزل في شقتها لتكتب قصة حياتها، لم أصف أمي مطلقاً بل وصفت نفسي حين اكون مع وحدتي. وهي لا علاقة لها بصورة «الأم التي بحجم الكون أو الحياة» كما كان الوضع في افلامي السابقة.
تفاصيل الحياة
في «جوليتا» تصور تفاصيل الحياة الصغيرة التي تترك اثرها لدى المشاهد وأنت تحب تصويرها مثل الوصول في الباص أو التاكسي او السفر في لحظات حصوله: ثمة احساس هائل باندماج المتلقي بكل مناخات الفيلم..
ـ يفرح السينمائي حينما يسمع كلاماً كهذا. انها اعجوبة السينما الهائلة: انت تعمل ها هنا وتسجل احاسيسك ولحظاتك وثمة مشاهد في اقاصي الارض يتفاعل معك بهذا القدر من الاحاسيس. والتفصيل المتعلق بوسائل النقل، انت محق فيه وهل تعلم لماذا اركز اهتمامي عليها، لأنني ربما لا اتقن قيادة السيارة، وأنا افكر ملياً في وسائل التنقل كلما قررت الخروج من منزلي، وفي «جوليتا» الشخصيات تعيش بعيدة عن بعضها البعض، والمسافات التي تفرقها لها اهميتها. فجوليتا مثلاً بحاجة لأن ترى والدها باستمرار لكن هذا مستحيل لأنه يسكن بعيداً عنها.
ألوان الثياب
هناك تفعيل آخر ويتعلق بالالوان: ألوان الثياب والأمكنة، وقعها في لحظات الفيلم وأنت تتقن هذا الأمر بدقة بمبالغة الى حد ما ولكن من دون ان يقع المشهد في الابتذال، انما هو على حافة المبالغة..
ـ الأزياء والالوان امر مهم في السينما. في فيلم «كازابلانكا» وفي مشهده الأول حين تسأل إنغريد برغمان هامفري بوغارت: «هل تتذكر لقاءنا الأخير في باريس؟ يجيبها: «بالتأكيد، في تلك المرحلة، كان الألمان يحتلون باريس وكان الجنود يرتدون جميعهم اللون الرمادي وأنت كنت ترتدين ثياباً زرقاء اللون». هذا نموذج رائع لنشير الى علاقة الألوان بأحاسيسنا القوية. وحين ارسم شخصية في فيلم فأنا اهتم بها تماما كما تهتم الأم بولدها فتشتري له الثياب الجميلة وتختار له الألوان الجميلة… في كل افلامي، للالوان وقعها فهي تشير الى دلالات دراماتورجية محددة، ان كان لون الثياب او لون جدار أو غيره..
شعور هائل
هناك جملة قصيرة وأخيرة لماريان في الفيلم تنهي كل الجدل. وفي اكثر من مقالة نقدية حول الفيلم اعتبرت ان «جوليتا» ليس ميلودراما بل تحديداً هو تراجيديا وذلك لأن القدر يلعب فيه دوراً مهماً.
فماريان في اللقطة الأخيرة تشبه يد القدر: وهي تنهي في كلمة ختامية حول عقوبة الموت لأحدهم. كذلك هناك ادوات اخرى تبدو وكأنها صور للقدر مثل الرجل في القطار. ثم كل هذه التفاصيل التي تعود الى مفاهيم يونانية اغريقية: البحر والدرس الذي تسرده جوليتا.. هل تسلم بالأمر بأن هذا الفيلم هو تراجيديا وليس ميلودراما كما كان الحال في كل افلامك؟
ـ تماماً حتى وإن كانت بعض عناصر هذه التراجيديا تصب في الميلودراما. انها قصة قدرية وهناك ايضا ذاك الشعور الهائل بالذنب الذي يصبح تماما مثل مرض نفسي. وحتى وان كانت البطلة ليست مذنبة في حدود اي غلطة ارتكبتها غير انها تشعر بأنها مذنبة ولا تستطيع ان تتحاشى قدرها. إذا الفيلم تراجيديا وهذا صحيح. في كل الأحوال هناك اشارات صغيرة ايضا في فيلم لم نذكرها الآن تؤكد هذا الموضوع وتؤكد ان البطلة متأثرة بالشخصيات الاغريقية التراجيدية، فهي مثلاً تذكر امام كزوان الذي سيصبح زوجها في ما بعد، بأنها متخصصة في الآداب الكلاسيكية القديمة وبأنها تدرس هذه المادة، وأنا اعتبرت بأن هذا كان انذاراً اولياً لما سيحدث معها من مصادفات وأحداث تراجيدية في ما بعد.